الآية 92 من سورة النحل
قال تعالى: (وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرۡبَىٰ مِنۡ أُمَّةٍۚ إِنَّمَا يَبۡلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِۦۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ) [النحل - الآية 92]
تفسير جلالين
«ولا تكونوا كالتي نقضت» أفسدت «غزلها» ما غزلته «من بعد قوة» إحكام له وبرم «أنكاثا» حال جمع نكث وهو ما ينكث أي يحل إحكامه وهي امرأة حمقاء من مكة كانت تغزل طوال يومها ثم تنقضه «تتخذون» حال من ضمير تكونوا: أي لا تكونوا مثلها في اتخاذكم «أيمانكم دخلاً» هو ما يدخل في الشيء وليس منه أي فسادا أو خديعة «بينكم» بأن تنقضوها «أن» أي لأن «تكون أُمة» جماعة «هي أربى» أكثر «من أمة» وكانوا يحالفون الحلفاء فإذا وجد أكثر منهم وأعز نقضوا حلف أولئك وحالفوهم «إنما يبلوكم» يختبركم «الله به» أي بما أمر به من الوفاء بالعهد لينظر المطيع منكم والعاصي أو يكون أمة أربى لينظر أتفون أم لا «وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون» في الدنيا من أمر العهد وغيره بأن يعذب الناكث ويثبت الوافي.
تفسير السعدي
وَلَا تَكُونُوا في نقضكم للعهود بأسوأ الأمثال وأقبحها وأدلها على سفه متعاطيها، وذلك كَالَّتِي تغزل غزلا قويا فإذا استحكم وتم ما أريد منه نقضته فجعلته أَنْكَاثًا فتعبت على الغزل ثم على النقض، ولم تستفد سوى الخيبة والعناء وسفاهة العقل ونقص الرأي، فكذلك من نقض ما عاهد عليه فهو ظالم جاهل سفيه ناقص الدين والمروءة.
وقوله: تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ أي: لا تنبغي هذه الحالة منكم تعقدون الأيمان المؤكدة وتنتظرون فيها الفرص، فإذا كان العاقد لها ضعيفا غير قادر على الآخر أتمها لا لتعظيم العقد واليمين بل لعجزه، وإن كان قويا يرى مصلحته الدنيوية في نقضها نقضها غير مبال بعهد الله ويمينه.
كل ذلك دورانا مع أهوية النفوس، وتقديما لها على مراد الله منكم، وعلى المروءة الإنسانية، والأخلاق المرضية لأجل أن تكون أمة أكثر عددا وقوة من الأخرى.
وهذا ابتلاء من الله وامتحان يبتليكم الله به حيث قيض من أسباب المحن ما يمتحن به الصادق الوفي من الفاجر الشقي.
وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فيجازي كلا بما عمل، ويخزي الغادر.
تفسير بن كثير
وقوله : ( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ) قال عبد الله بن كثير ، والسدي : هذه امرأة خرقاء كانت بمكة ، كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه.
وقال مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد : هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده.
وهذا القول أرجح وأظهر ، وسواء كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا.
وقوله : ( أنكاثا ) يحتمل أن يكون اسم مصدر ، نقضت غزلها أنكاثا ، أي : أنقاضا.
ويحتمل أن يكون بدلا عن خبر كان ، أي : لا تكونوا أنكاثا ، جمع نكث من ناكث ; ولهذا قال بعده : ( تتخذون أيمانكم دخلا بينكم ) أي : خديعة ومكرا ، ( أن تكون أمة هي أربى من أمة ) أي : يحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم ليطمئنوا إليكم ، فإذا أمكنكم الغدر بهم غدرتم.
فنهى الله عن ذلك ؛ لينبه بالأدنى على الأعلى إذا كان قد نهى عن الغدر - والحالة هذه - فلأن ينهى عنه مع التمكن والقدرة بطريق الأولى.
وقد قدمنا - ولله الحمد - في سورة " الأنفال " قصة معاوية لما كان بينه وبين ملك الروم أمد ، فسار معاوية إليهم في آخر الأجل ، حتى إذا انقضى وهو قريب من بلادهم ، أغار عليهم وهم غارون لا يشعرون ، فقال له عمرو بن عبسة : الله أكبر يا معاوية وفاء لا غدرا ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من كان بينه وبين قوم أجل فلا يحلن عقدة حتى ينقضي أمدها ".
فرجع معاوية بالجيش - رضي الله عنه - وأرضاه.
قال ابن عباس : ( أن تكون أمة هي أربى من أمة ) أي : أكثر.
وقال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء ، فيجدون أكثر منهم وأعز ، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز ، فنهوا عن ذلك.
وقال الضحاك ، وقتادة ، وابن زيد نحوه.
وقوله : ( إنما يبلوكم الله به ) قال سعيد بن جبير : يعني بالكثرة ، رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير : أي : بأمره إياكم بالوفاء والعهد.
( وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ) فيجازي كل عامل بعمله ، من خير وشر.
تفسير الوسيط للطنطاوي
ثم ضرب- سبحانه- مثلا لتقبيح نقض العهد، فقال- تعالى-: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً.
وقوله: غَزْلَها اى: مغزولها، فهو مصدر بمعنى المفعول.
والفعل منه غزل يغزل- بكسر الزاى.
من باب ضرب.
يقال غزلت المرأة الصوف أو القطن غزلا.
والجار والمجرور في قوله مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ متعلق بالفعل نَقَضَتْ أى: نقضته وأفسدته من بعد إبرامه وإحكامه.
وأَنْكاثاً حال مؤكدة من غَزْلَها، ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا، بتضمين الفعل نقضت معنى صيرت أو جعلت.
والأنكاث: جمع نكث- بكسر النون-، بمعنى منكوث أى منقوض، وهو ما نقض وحل فتله ليغزل ثانيا، والجمع أنكاث كحمل وأحمال.
يقال: نكث الرجل العهد نكثا- من باب قتل- إذا نقضه ونبذه، ومنه قوله- تعالى- فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ.
قال ابن كثير: هذه امرأة خرقاء كانت بمكة، كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه.
وقال مجاهد وقتادة وابن زيد: هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده.
وهذا أرجح وأظهر سواء أكان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا.
والمعنى: كونوا- أيها المسلمون- أوفياء بعهودكم، ولا تنقضوها بعد إبرامها، فإنكم إن نقضتموها كان مثلكم كمثل تلك المرأة الحمقاء، التي كانت تفتل غزلها فتلا محكما، ثم تنقضه بعد ذلك، وتتركه مرة أخرى قطعا منكوثة محلولة.
فالجملة الكريمة تحقر في كل جزئية من جزئياتها، حال من ينقض العهد، وتشبهه على سبيل التنفير والتقبيح بحال امرأة ملتاثه في عقلها، مضطربة في تصرفاتها.
وقوله- سبحانه-: تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ.
إبطال للأسباب التي كان يتخذها بعض الناس ذرائع ومبررات لنقض العهود.
والدّخل- بفتح الخاء-: المكر والغش والخديعة.
وهو في الأصل اسم للشيء الذي يدخل في غيره وليس منه.
قال الراغب: والدخل كناية عن الفساد والعداوة المستبطنة، كالدّغل، وعن الدعوة في النسب.
ومنه قيل: شجرة مدخولة- أى ليست من جنس الأشجار التي حولها.
وقوله أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ.
متعلق بقوله تَتَّخِذُونَ.
وقوله أَرْبى مأخوذ من الربو بمعنى الزيادة والكثرة.
يقال: ربا الشيء يربو إذا زاد وكثر.
والمعنى: لا تكونوا مشبهين لامرأة هذا شأنها، حالة كونكم متخذين أيمانكم وأقسامكم وسيلة للغدر والخيانة، من أجل أن هناك جماعة أوفر عددا وأكثر مالا من جماعة أخرى.
قال القرطبي: قال المفسرون: نزلت هذه الآية في العرب الذين كانت القبيلة منهم إذا حالفت أخرى، ثم جاءت إحداهما قبيلة أخرى كبيرة قوية فداخلتها غدرت بالأولى ونقضت عهدها، ورجعت إلى هذه الكبرى، فنهاهم الله- تعالى-: أن ينقضوا العهود من أجل أن طائفة أكثر من طائفة أخرى، أو أكثر أموالا.
وقال الفراء: المعنى: لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم، أو لقلتكم وكثرتهم وقد عززتموهم بالأيمان.
وقال ابن كثير: قال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء، فيجدون أكثر منهم وأعز، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز، فنهوا عن ذلك.
والخلاصة: أن الآية الكريمة تدعو إلى وجوب الوفاء بالعهود في جميع الأحوال، وتنهى عن اللجوء إلى الذرائع الباطلة، من أجل نقض العهود، إذ الإسلام لا يقر هذه الذرائع وتلك المبررات، بدعوى أن هناك جماعة أقوى من جماعة، أو دولة أعز من دولة، وإنما الذي يقره الإسلام هو مراعاة الوفاء بالعهود، وعدم اتخاذ الأيمان وسيلة للغش والخداع.
والضمير المجرور في قوله: إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ يعود على مضمون الجملة المتقدمة وهي قوله- تعالى-: أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ.
أى: إنما يبلوكم الله ويختبركم بكون أمة أربى من أمة، لينظر أتفون بعهودكم أم لا.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: قوله- تعالى-: إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ الضمير لقوله: أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ.
لأنه في معنى المصدر.
أى: إنما يختبركم بكونهم أربى، لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله، وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقوتهم.
وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم.
ويجوز أن يعود إلى ما أمر الله به من الوفاء بالعهد، فيكون المعنى: إنما يبلوكم الله ويختبركم بما أمركم به من الوفاء بالعهود، ومن النهى عن النقض ليظهر لكم المطيع من العاصي، وقوى الإيمان من ضعيفه.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة ببيان أن مرد الفصل بين العباد فيما اختلفوا فيه إليه- تعالى- وحده، فقال: وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فيجازى أهل الحق بما يستحقون من ثواب، ويجازى أهل الباطل بما هم أهله من عقاب.
تفسير البغوي
ثم ضرب الله مثلا لنقض العهد فقال : ( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة ) ( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة ) أي : من بعد غزله وإحكامه.
قال الكلبي ، ومقاتل : هي امرأة خرقاء حمقاء من قريش ، يقال لها " ريطة بنت عمرو بن سعد بن كعب بن زيد مناة بن تميم " وتلقب بجعر ، وكانت بها وسوسة ، وكانت اتخذت مغزلا بقدر ذراع وصنارة مثل الأصبع ، وفلكة عظيمة ، على قدرها ، وكانت تغزل الغزل من الصوف والشعر والوبر ، وتأمر جواريها بذلك ، فكن يغزلن من الغداة إلى نصف النهار ، فإذا انتصف النهار أمرتهن بنقض جميع ما غزلن فهذا كان دأبها.
ومعناه : أنها لم تكف عن العمل ، ولا حين عملت كفت عن النقض ، فكذلك أنتم إذا نقضتم العهد ، لا كففتم عن العهد ، ولا حين عاهدتم وفيتم به.
( أنكاثا ) يعني أنقاضا واحدتها " نكث " وهو ما نقض بعد الفتل ، غزلا كان أو حبلا.
( تتخذون أيمانكم دخلا بينكم ) أي : دخلا وخيانة وخديعة ، و " الدخل " ما يدخل في الشيء للفساد.
وقيل : " الدخل " و " الدغل " : أن يظهر الوفاء ويبطن النقض.
( أن تكون ) أي : لأن تكون ، ( أمة هي أربى ) أي : أكثر وأعلى ، ( من أمة ) قال مجاهد : وذلك أنهم كانوا يحالفون الحلفاء فإذا وجدوا قوما أكثر منهم وأعز نقضوا حلف هؤلاء وحالفوا الأكثر ، فمعناه : طلبتم العز بنقض العهد ، بأن كانت أمة أكثر من أمة.
فنهاهم الله عن ذلك.
( إنما يبلوكم الله به ) يختبركم الله بأمره إياكم بالوفاء بالعهد ، ( وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ) في الدنيا.
تفسير القرطبي
قوله تعالى : ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفونقوله تعالى : ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا النقض والنكث واحد ، والاسم النكث والنقض ، والجمع الأنكاث.
فشبهت هذه الآية الذي يحلف ويعاهد ويبرم عهده ثم ينقضه بالمرأة تغزل غزلها وتفتله محكما ثم تحله.
ويروى أن امرأة حمقاء كانت بمكة تسمى ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة كانت تفعل ذلك ، فبها وقع التشبيه ; قال الفراء ، وحكاه عبد الله بن كثير والسدي ولم يسميا المرأة ، وقال مجاهد وقتادة : وذلك ضرب مثل ، لا على امرأة معينة.
وأنكاثا نصب على الحال.
والدخل : الدغل والخديعة والغش.
قال أبو عبيدة : كل أمر لم يكن صحيحا فهو دخل.
أن تكون أمة هي أربى من أمة قال المفسرون : نزلت هذه الآية في العرب الذين كانت القبيلة منهم إذ حالفت أخرى ، ثم جاءت إحداهما قبيلة كثيرة قوية فداخلتها غدرت الأولى ونقضت عهدها ورجعت إلى هذه الكبرى - قاله مجاهد - فقال الله - تعالى - : لا تنقضوا العهود من أجل أن طائفة أكثر من طائفة أخرى أو أكثر أموالا فتنقضون أيمانكم إذا رأيتم الكثرة والسعة في الدنيا لأعدائكم المشركين.
والمقصود النهي عن العود إلى الكفر بسبب كثرة الكفار وكثرة أموالهم.
وقال الفراء : المعنى لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم أو لقلتكم وكثرتهم ، وقد عززتموهم بالأيمان.
أربى أي أكثر ; من ربا الشيء يربو إذا كثر.
والضمير في به يحتمل أن يعود على الوفاء الذي أمر الله به.
ويحتمل أن يعود على الرباء ;أي أن الله - تعالى - ابتلى عباده بالتحاسد وطلب بعضهم الظهور على بعض ، واختبرهم بذلك من يجاهد نفسه فيخالفها ممن يتبعها ويعمل بمقتضى هواها ; وهو معنى قوله : إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون من البعث وغيره.
تفسير الطبري
يقول تعالى ذكره ناهيا عباده عن نقض الأيمان بعد توكيدها، وآمرًا بوفاء العهود، وممثلا ناقض ذلك بناقضة غزلها من بعد إبرامه وناكثته من بعد إحكامه: ولا تكونوا أيها الناس في نقضكم أيمانكم بعد توكيدها وإعطائكم الله بالوفاء بذلك العهود والمواثيق ( كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ) يعني: من بعد إبرام.
وكان بعض أهل العربية يقول: القوّة: ما غُزِل على طاقة واحدة ولم يثن.
وقيل: إن التي كانت تفعل ذلك امرأة حمقاء معروفة بمكة.
* ذكر من قال ذلك:حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير ( كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ) قال: خرقاء كانت بمكة تنقضه بعد ما تُبْرِمه.
حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن صدقة، عن السديّ( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ ) قال: هي خَرْقَاءُ بمكة كانت إذا أبرمت غزلها نقضته.
وقال آخرون: إنما هذا مثل ضربه الله لمن نقض العهد، فشبهه بامرأة تفعل هذا الفعل.
وقالوا في معنى نقضت غزلها من بعد قوة، نحوا مما قلنا.
* ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا ) فلو سمعتم بامرأة نقضت غزلها من بعد إبرامه لقلتم: ما أحمق هذه! وهذا مثل ضربه الله لمن نكث عهده.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ) قال: غزلها: حبلها تنقضه بعد إبرامها إياه ولا تنتفع به بعد.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ) قال: نقضت حبلها من بعد إبرام قوّة.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا ) قال: هذا مثل ضربه الله لمن نقض العهد الذي يعطيه، ضرب الله هذا له مثلا بمثل التي غزلت ثم نقضت غزلها، فقد أعطاهم ثم رجع، فنكث العهد الذي أعطاهم.
وقوله ( أَنْكَاثًا ) يعني: أنقاضا، وكلّ شيء نُقِض بعد الفتل فهو أنكاث، واحدها: نكْث حبلا كان ذلك أو غزلا يقال منه: نَكَث فلان هذا الحبل فهو ينكُثُه نكثا، والحبل منتكِث: إذا انتقضت قُواه.
وإنما عني به في هذا الموضع نكث العهد والعقد.
وقوله ( تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) يقول تعالى ذكره: تجعلون أيمانكم التي تحلفون بها على أنكم موفون بالعهد لمن عاقدتموه ( دَخَلا بَيْنَكُمْ ) يقول: خديعة وغرورا ليطمئنوا إليكم وأنتم مضمرون لهم الغدر وترك الوفاء بالعهد والنُّقلة عنهم إلى غيرهم من أجل أن غيرهم أكثر عددًا منهم.
والدَّخَل في كلام العرب: كلّ أمر لم يكن صحيحًا، يقال منه: أنا أعلم دَخَل فلان ودُخْلُلَه وداخلة أمره ودخلته ودخيلته.
وأما قوله ( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) فإن قوله أربى: أفعل من الربا، يقال: هذا أربى من هذا وأربأ منه، إذا كان أكثر منه ؛ ومنه قول الشاعر:وأسْمَرَ خَطِّيّ كأنَّ كُعُوبَهُنَوى القسْبِ قد أرْبَى ذرَاعا على العَشْرِ (2)وإنما يقال: أربى فلان من هذا وذلك للزيادة التي يزيدها على غريمه على رأس ماله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:حدثني المثنى، وعليّ بن داود، قالا ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) يقول: أكثر.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) يقول: ناس أكثر من ناس.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء ؛ وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) قال: كانوا يحالفون الحلفاء، فيجدون أكثر منهم وأعزّ، فينقضون حِلْف هؤلاء ، ويحالفون هؤلاء الذين هم أعزّ منهم، فنهوا عن ذلك.
حدثنا ابن المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (3) وحدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ ) يقول: خيانة وغدرا بينكم ( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) أن يكون قوم أعزّ وأكثر من قوم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا أبو ثور، عن مَعْمر، عن قتادة ( دَخَلا بَيْنَكُمْ ) قال: خيانة بينكم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ ) يغرّ بها، يعطيه العهد يؤمنه وينزله من مأمنه، فتزلّ قدمه وهو في مأمن، ثم يعود يريد الغدر، قال: فأوّل بدو هذا (4) قوم كانوا حلفاء لقوم تحالفوا ، وأعطى بعضهم بعضا العهد، فجاءهم قوم قالوا: نحن أكثر وأعزّ وأمنع، فانقضوا عهد هؤلاء وارجعوا إلينا ، ففعلوا، وذلك قول الله تعالى وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا ( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) هي أربى: أكثر من أجل أن كانوا هؤلاء أكثر من أولئك نقضتم العهد فيما بينكم وبين هؤلاء، فكان هذا في هذا، وكان الأمر الآخر في الذي يعاهده فينزله من حِصْنه ثم ينكث عليه، الآية الأولى في هؤلاء القوم وهي مبدؤه، والأخرى في هذا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله ( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) يقول: أكثر، يقول: فعليكم بوفاء العهد.
وقوله ( إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ) يقول تعالى ذكره: إنما يختبركم الله بأمره إياكم بالوفاء بعهد الله إذا عاهدتم، ليتبين المطيع منكم المنتهي إلى أمره ونهيه من العاصي المخالف أمره ونهيه ( وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) يقول تعالى ذكره: وليبينن لكم أيها الناس ربكم يوم القيامة إذا وردتم عليه بمجازاة كلّ فريق منكم على عمله في الدنيا، المحسن منكم بإحسانه والمسيء بإساءته، ( مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) والذي كانوا فيه يختلفون في الدنيا أن المؤمن بالله كان يقرّ بوحدانية الله ونبوّة نبيه، ويصدق بما ابتعث به أنبياءه، وكان يكذّب بذلك كله الكافر فذلك كان اختلافهم في الدنيا الذي وعد الله تعالى ذكره عباده أن يبينه لهم عند ورودهم عليه بما وصفنا من البيان.