تفسير: والله جعل لكم من…، الآية 80 من سورة النحل

الآية 80 من سورة النحل

قال تعالى: (وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنۢ بُيُوتِكُمۡ سَكَنٗا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ ٱلۡأَنۡعَٰمِ بُيُوتٗا تَسۡتَخِفُّونَهَا يَوۡمَ ظَعۡنِكُمۡ وَيَوۡمَ إِقَامَتِكُمۡ وَمِنۡ أَصۡوَافِهَا وَأَوۡبَارِهَا وَأَشۡعَارِهَآ أَثَٰثٗا وَمَتَٰعًا إِلَىٰ حِينٖ) [النحل - الآية 80]

تفسير جلالين

«والله جعل لكم من بيوتكم سكنا» موضعا تسكنون فيه «وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا» كالخيام والقباب «تستخفونها» للحمل «يوم ظعنكم» سفركم «ويوم إقامتكم ومن أصوافها» أي الغنم «وأوبارها» أي الإبل «وأشعارها» أي المعز «أثاثا» متاعا لبيوتكم كبسط وأكسية «ومتاعا» تتمتعون به «إلى حين» يبلى فيه.

تفسير السعدي

يذكر تعالى عباده نعمه، ويستدعي منهم شكرها والاعتراف بها فقال: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا في الدور والقصور ونحوها تكنُّكم من الحر والبرد وتستركم أنتم وأولادكم وأمتعتكم، وتتخذون فيها الغرف والبيوت التي هي لأنواع منافعكم ومصالحكم وفيها حفظ لأموالكم وحرمكم وغير ذلك من الفوائد المشاهدة، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ إما من الجلد نفسه أو مما نبت عليه، من صوف وشعر ووبر.

بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا أي: خفيفة الحمل تكون لكم في السفر والمنازل التي لا قصد لكم في استيطانها، فتقيكم من الحر والبرد والمطر، وتقي متاعكم من المطر، و جعل لكم وَمِنْ أَصْوَافِهَا أي: الأنعام وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وهذا شامل لكل ما يتخذ منها من الآنية والأوعية والفرش والألبسة والأجلة، وغير ذلك.

وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ أي: تتمتعون بذلك في هذه الدنيا وتنتفعون بها، فهذا مما سخر الله العباد لصنعته وعمله.

تفسير بن كثير

يذكر تبارك وتعالى تمام نعمه على عبيده ، بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم ، يأوون إليها ، ويستترون بها ، وينتفعون بها سائر وجوه الانتفاع ، وجعل لهم أيضا ( من جلود الأنعام بيوتا ) أي : من الأدم ، يستخفون حملها في أسفارهم ، ليضربوها لهم في إقامتهم في السفر والحضر ولهذا قال : ( تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها ) أي : الغنم ، ( وأوبارها ) أي : الإبل ، ( وأشعارها ) أي : المعز - والضمير عائد على الأنعام - ( أثاثا ) أي : تتخذون منه أثاثا وهو المال.

وقيل : المتاع.

وقيل : الثياب والصحيح أعم من هذا كله ، فإنه يتخذ من الأثاث البسط والثياب وغير ذلك ، ويتخذ مالا وتجارة.

وقال ابن عباس : الأثاث : المتاع.

وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وعطية العوفي ، وعطاء الخراساني ، والضحاك ، وقتادة.

وقوله : ( إلى حين ) أي : إلى أجل مسمى ووقت معلوم.

تفسير الوسيط للطنطاوي

ثم ساقت السورة الكريمة ألوانا من النعم، منها ما يتعلق بنعمة المسكن فقال- تعالى-:وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً.

قال القرطبي: قوله- تعالى-: جَعَلَ لَكُمْ معناه صير، وكل ما علاك فأظلك فهو سقف وسماء، وكل ما أقلك فهو أرض، وكل ما سترك من جهاتك الأربع فهو جدار، فإذا انتظمت واتصلت فهو بيت، وهذه الآية فيها تعديد نعم الله تعالى على الناس في البيوت وقوله: «سكنا» أى: تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة.

والحق أن نعمة السكن في البيوت والاستقرار فيها، والشعور بداخلها بالأمان والاطمئنان، هذه النعمة لا يقدرها حق قدرها، إلا أولئك الذين فقدوها، وصاروا يعيشون بلا مأوى يأويهم، أو منزل يجمع شتاتهم.

والتعبير بقوله عز وجل سَكَناً فيه ما فيه من السمو بمكانة البيوت التي يسكنها الناس.

فالبيت مكان السكينة النفسية، والراحة الجسدية، هكذا يريده الإسلام، ولا يريده مكانا للشقاق والخصام، لأن الشقاق والخصام ينافي كونه «سكنا».

والبيت له حرمته التي جعل الإسلام من مظاهرها، عدم اقتحامه بدون استئذان، وعدم التطلع إلى ما بداخله، وعدم التجسس على من بداخله.

وصيانة حرمة البيت- كما أمر الإسلام- تجعله «سكنا» آمنا، يجد فيه أصحابه كل ما يريدون من الراحة النفسية والشعورية.

وقوله- تعالى-: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ بيان لنعمة أخرى تتمثل في البيوت الخفيفة المتنقلة، بعد الحديث عن البيوت الثابتة المستقرة.

والأنعام: جمع نعم.

وتشمل الإبل والبقر والغنم، ويدخل في الغنم المعز.

والظعن بسكون العين وفتحها: التحول والانتقال والرحيل من مكان إلى آخر طلبا للكلأ، أو لمساقط الغيث، أو لغير ذلك من الأغراض.

أى: ومن نعمه أيضا أنه أوجد لكم من جلود الأنعام بيوتا «تستخفونها» أى: تجدونها خفيفة «يوم ظعنكم» أى: يوم سفركم ورحيلكم من موضع إلى آخر «ويوم إقامتكم» في مكان معين بحيث يمكنكم أن تنصبوها لترتاحوا بداخلها، بأيسر السبل، وذلك كالقباب والخيام والأخبية، وغير ذلك من البيوت التي يخف حملها.

ثم ختم- سبحانه- الآية بإبراز نعمة ثالثة، تتمثل فيما يأخذونه من الأنعام فقال- تعالى-: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها، وَأَشْعارِها، أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ.

والأثاث: متاع البيت الكثير، وأصله من أث الشيء- بفتح الهمزة وتشديد الثاء مع الفتح- إذا كثر وتكاتف، ومنه قول الشاعر.

وفرع يزين المتن أسود فاحم.

أثيت كقنو النخلة المتعثكلويشمل جميع أصناف المال كالفرش وغيرها.

والمتاع: ما يتمتع به من حوائج البيت الخاصة كأدوات الطعام والشراب، فيكون عطف المتاع على الأثاث من عطف الخاص على العام.

وقيل: هما بمعنى واحد.

والعطف لتنزيل تغاير اللفظ بمنزله تغاير المعنى.

أى: ومن أصواف الغنم، وأوبار الإبل، وأشعار المعز، تتخذون لأنفسكم «أثاثا» كثيرا تستعملونه في مصالحكم المتنوعة، كما تتخذون من ذلك ما تتمتعون به في بيوتكم وفي معاشكم «إلى حين» أى: إلى وقت معين قدره الله- تعالى- لكم في تمتعكم بهذه الأصواف والأوبار والأشعار.

تفسير البغوي

( والله جعل لكم من بيوتكم ) [ التي هي من الحجر والمدر ] ( سكنا ) أي : مسكنا تسكنونه ، ( وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا ) يعني الخيام ، والقباب ، والأخبية ، والفساطيط من الأنطاع والأدم ( تستخفونها ) أي : يخف عليكم حملها ، ( يوم ظعنكم ) رحلتكم في سفركم ، قرأ ابن عامر ، وأهل الكوفة ، ساكنة العين ، والآخرون بفتحها ، وهو أجزل اللغتين ، ( ويوم إقامتكم ) في بلدكم لا تثقل عليكم في الحالين.

( ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها ) يعني : أصواف الضأن ، وأوبار الإبل ، وأشعار المعز ، والكنايات راجعة إلى الأنعام ، ( أثاثا ) قال ابن عباس : مالا.

قال مجاهد : متاعا.

قال القتيبي : " الأثاث " : المال أجمع ، من الإبل والغنم والعبيد ، والمتاع.

وقال غيره : هو متاع البيت من الفرش والأكسية.

( ومتاعا ) بلاغا ينتفعون بها ، ( إلى حين ) يعني الموت.

وقيل : إلى حين تبلى.

تفسير القرطبي

قوله تعالى : والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حينفيه عشر مسائل :الأولى : قوله تعالى : جعل لكم معناه صير.

وكل ما علاك فأظلك فهو سقف وسماء ، وكل ما أقلك فهو أرض ، وكل ما سترك من جهاتك الأربع فهو جدار ; فإذا انتظمت واتصلت فهو بيت.

وهذه الآية فيها تعديد نعم الله - تعالى - على الناس في البيوت ، فذكر أولا بيوت المدن وهي التي للإقامة الطويلة.

وقوله : سكنا أي تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة ، وقد تتحرك فيه وتسكن في غيره ; إلا أن القول خرج على الغالب.

وعد هذا في جملة النعم فإنه لو شاء خلق العبد مضطربا أبدا كالأفلاك لكان ذلك كما خلق وأراد ، لو خلقه ساكنا كالأرض لكان كما خلق وأراد ، ولكنه أوجده خلقا يتصرف للوجهين ، ويختلف حاله بين الحالتين ، وردده كيف وأين.

والسكن مصدر يوصف به الواحد والجمع.

ثم ذكر - تعالى - بيوت النقلة والرحلة وهي :الثانية : فقال وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها أي من الأنطاع والأدم.

بيوتا يعني الخيام والقباب يخف عليكم حملها في الأسفار.

يوم ظعنكم الظعن : سير البادية في الانتجاع والتحول من موضع إلى موضع ; ومنه قول عنترة :ظعن الذين فراقهم أتوقع وجرى ببينهم الغراب الأبقعوالظعن الهودج أيضا ; قال :ألا هل هاجك الأظعان إذ بانوا وإذ جادت بوشك البين غربانوقرئ بإسكان العين وفتحها كالشعر والشعر.

وقيل : يحتمل أن يعم بيوت الأدم وبيوت الشعر وبيوت الصوف ; لأن هذه من الجلود لكونها ثابتة فيها ; نحا إلى ذلك ابن سلام.

وهو احتمال حسن ، ويكون قوله ومن أصوافها ابتداء كلام ، كأنه قال جعل أثاثا ; يريد الملابس والوطاء ، وغير ذلك ; قال الشاعر :أهاجتك الظعائن يوم بانوا بذي الزي الجميل من الأثاثويحتمل أن يريد بقوله من جلود الأنعام بيوت الأدم فقط كما قدمناه أولا.

ويكون قوله ومن أصوافها عطفا على قوله من جلود الأنعام أي جعل بيوتا أيضا.

قال ابن العربي : وهذا أمر انتشر في تلك الديار ، وعزبت عنه بلادنا ، فلا تضرب الأخبية عندنا إلا من الكتان والصوف ، وقد كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - قبة من أدم ، وناهيك من أدم الطائف غلاء في القيمة ، واعتلاء في الصنعة ، وحسنا في البشرة ، ولم يعد ذلك - صلى الله عليه وسلم - ترفا ولا رآه سرفا ; لأنه مما امتن الله سبحانه من نعمته وأذن فيه من متاعه ، وظهرت وجوه منفعته في الاكتنان والاستظلال الذي لا يقدر على الخروج عنه جنس الإنسان.

ومن غريب ما جرى أني زرت بعض المتزهدين من الغافلين مع بعض المحدثين ، فدخلنا عليه في خباء كتان فعرض عليه صاحبي المحدث أن يحمله إلى منزله ضيفا ، وقال : إن هذا موضع يكثر فيه الحر والبيت أرفق بك وأطيب لنفسي فيك ; فقال : هذا الخباء لنا كثير ، وكان في صنعنا من الحقير ; فقلت : ليس كما زعمت فقد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو رئيس الزهاد قبة من أدم طائفي يسافر معها ويستظل بها ; فبهت ، ورأيته على منزلة من العي فتركته مع صاحبي وخرجت عنه.

الثالثة : قوله تعالى : ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أذن الله سبحانه بالانتفاع بصوف الغنم ووبر الإبل وشعر المعز ، كما أذن في الأعظم ، وهو ذبحها وأكل لحومها ، ولم يذكر القطن والكتان لأنه لم يكن في بلاد العرب المخاطبين به ، وإنما عدد عليهم ما أنعم به عليهم ، وخوطبوا فيما عرفوا بما فهموا.

وما قام مقام هذه وناب منابها فيدخل في الاستعمال والنعمة مدخلها ; وهذا كقوله - تعالى - : وينزل من السماء من جبال فيها من برد ; فخاطبهم بالبرد لأنهم كانوا يعرفون نزوله كثيرا عندهم ، وسكت عن ذكر الثلج ; لأنه لم يكن في بلادهم ، وهو مثله في الصفة والمنفعة ، وقد ذكرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - معا في التطهير فقال : اللهم اغسلني بماء وثلج وبرد.

قال ابن عباس : الثلج شيء أبيض ينزل من السماء وما رأيته قط.

وقيل : إن ترك ذكر القطن والكتان إنما كان إعراضا عن الترف ; إذ ملبس عباد الله الصالحين إنما هو الصوف.

وهذا فيه نظر ; فإنه سبحانه يقول : يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم حسبما تقدم بيانه في " الأعراف وقال هنا : وجعل لكم سرابيل فأشار إلى القطن والكتان في لفظة سرابيل والله أعلم.

و أثاثا قال الخليل : متاعا منضما بعضه إلى بعض ; من أث إذا كثر.

قال :وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكلابن عباس : أثاثا ثيابا.

وقد تقدموتضمنت هذه الآية جواز الانتفاع بالأصواف والأوبار والأشعار على كل حال ، ولذلك قال أصحابنا : صوف الميتة وشعرها طاهر يجوز الانتفاع به على كل حال ، ويغسل مخافة أن يكون علق به وسخ ; وكذلك روت أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا بأس بجلد الميتة إذا دبغ وصوفها وشعرها إذا غسل لأنه مما لا يحله الموت ، سواء كان شعر ما يؤكل لحمه أو لا ، كشعر ابن آدم والخنزير ، فإنه طاهر كله ; وبه قال أبو حنيفة ، ولكنه زاد علينا فقال : القرن والسن والعظم مثل الشعر ; قال : لأن هذه الأشياء كلها لا روح فيها لا تنجس بموت الحيوان.

وقال الحسن البصري والليث بن سعد والأوزاعي : إن الشعور كلها نجسة ولكنها تطهر بالغسل.

وعن الشافعي ثلاث روايات : الأولى : طاهرة لا تنجس بالموت.

الثانية : تنجس.

الثالثة : الفرق بين شعر ابن آدم وغيره ، فشعر ابن آدم طاهر وما عداه نجس.

ودليلنا عموم قوله - تعالى - : ومن أصوافها الآية.

فمن علينا بأن جعل لنا الانتفاع بها ، ولم يخص شعر الميتة من المذكاة ، فهو عموم إلا أن يمنع منه دليل.

وأيضا فإن الأصل كونها طاهرة قبل الموت بإجماع ، فمن زعم أنه انتقل إلى نجاسة فعليه الدليل.

فإن قيل قوله : حرمت عليكم الميتة وذلك عبارة عن الجملة.

قلنا : نخصه بما ذكرنا ; فإنه منصوص عليه في ذكر الصوف ، وليس في آيتكم ذكره صريحا ، فكان دليلنا أولى.

والله أعلم.

وقد عول الشيخ الإمام أبو إسحاق إمام الشافعية ببغداد على أن الشعر جزء متصل بالحيوان خلقة ، فهو ينمي بنمائه ويتنجس بموته كسائر الأجزاء.

وأجيب بأن النماء ليس بدليل على الحياة ; لأن النبات ينمي وليس بحي.

وإذا عولوا على النماء المتصل لما على الحيوان عولنا نحن على الإبانة التي تدل على عدم الإحساس الذي يدل على عدم الحياة.

وأما ما ذكره الحنفيون في العظم والسن والقرن أنه مثل الشعر ، فالمشهور عندنا أن ذلك نجس كاللحم.

وقال ابن وهب مثل قول أبي حنيفة.

ولنا قول ثالث : هل تلحق أطراف القرون والأظلاف بأصولها أو بالشعر ، قولان.

وكذلك الشعري من الريش حكمه حكم الشعر ، والعظمي منه حكمه حكمه.

ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا تنتفعوا من الميتة بشيء وهذا عام فيها وفي كل جزء منها ، إلا ما قام دليله ; ومن الدليل القاطع على ذلك قوله - تعالى - : قال من يحيي العظام وهي رميم ، وقال - تعالى - : وانظر إلى العظام كيف ننشزها ، وقال : فكسونا العظام لحما ، وقال : أئذا كنا عظاما نخرة فالأصل هي العظام ، والروح والحياة فيها كما في اللحم والجلد.

وفي حديث عبد الله بن عكيم : ( لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ).

فإن قيل : قد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في شاة ميمونة : ( ألا انتفعتم بجلدها ) ؟ فقالوا : يا رسول الله ، إنها ميتة.

فقال : ( إنما حرم أكلها ) والعظم لا يؤكل.

قلنا : العظم يؤكل ، وخاصة عظم الجمل الرضيع والجدي والطير ، وعظم الكبير يشوى ويؤكل.

وما ذكرناه قبل يدل على وجود الحياة فيه ، وما كان طاهرا بالحياة ويستباح بالذكاة ينجس بالموت.

والله أعلم.

الرابعة : قوله تعالى : من جلود الأنعام عام في جلد الحي والميت ، فيجوز الانتفاع بجلود الميتة وإن لم تدبغ ; وبه قال ابن شهاب الزهري والليث بن سعد.

قال الطحاوي : لم نجد عن أحد من الفقهاء جواز بيع جلد الميتة قبل الدباغ إلا عن الليث.

قال أبو عمر : يعني من الفقهاء أئمة الفتوى بالأمصار بعد التابعين ، وأما ابن شهاب فذلك عنه صحيح ، وهو قول أباه جمهور أهل العلم.

وقد روي عنهما خلاف هذا القول ، والأول أشهر.

قلت : قد ذكر الدارقطني في سننه حديث يحيى بن أيوب عن يونس وعقيل عن الزهري ، وحديث بقية عن الزبيدي ، وحديث محمد بن كثير العبدي وأبي سلمة المنقري عن سليمان بن كثير عن الزهري ، وقال في آخرها : هذه أسانيد صحاح.

السادسة : اختلف العلماء في جلد الميتة إذا دبغ هل يطهر أم لا ; فذكر ابن عبد الحكم عن مالك ما يشبه مذهب ابن شهاب في ذلك.

وذكره ابن خويز منداد في كتابه عن ابن عبد الحكم أيضا.

قال ابن خويز منداد : وهو قول الزهري والليث.

قال : والظاهر من مذهب مالك ما ذكره ابن عبد الحكم ، وهو أن الدباغ لا يطهر جلد الميتة ، ولكن يبيح الانتفاع به في الأشياء اليابسة ، ولا يصلى عليه ولا يؤكل فيه.

وفي المدونة لابن القاسم : من اغتصب جلد ميتة غير مدبوغ فأتلفه كان عليه قيمته.

وحكي أن ذلك قول مالك.

وذكر أبو الفرج أن مالكا قال : من اغتصب لرجل جلد ميتة غير مدبوغ فلا شيء عليه.

قال إسماعيل : إلا أن يكون لمجوسي.

وروى ابن وهب ، وابن عبد الحكم عن مالك جواز بيعه ، وهذا في جلد كل ميتة إلا الخنزير وحده ; لأن الزكاة لا تعمل فيه ، فالدباغ أولى.

قال أبو عمر : وكل جلد ذكي فجائز استعماله للوضوء وغيره.

وكان مالك يكره الوضوء في إناء جلد الميتة بعد الدباغ على اختلاف من قوله ، ومرة قال : إنه لم يكرهه إلا في خاصة نفسه ، وتكره الصلاة عليه وبيعه ، وتابعه على ذلك جماعة من أصحابه.

وأما أكثر المدنيين فعلى إباحة ذلك وإجازته ; لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أيما إهاب دبغ فقد طهر.

وعلى هذا أكثر أهل الحجاز والعراق من أهل الفقه والحديث ،.

وهو اختيار ابن وهب.

السابعة : ذهب الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - إلى أنه لا يجوز الانتفاع بجلود الميتة في شيء وإن دبغت ; لأنها كلحم الميتة.

والأخبار بالانتفاع بعد الدباغ ترد قوله.

واحتج بحديث عبد الله بن عكيم - رواه أبو داود - قال : قرئ علينا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأرض جهينة وأنا غلام شاب : ألا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب.

وفي رواية : قبل موته بشهر.

رواه القاسم بن مخيمرة عن عبد الله بن عكيم ، قال : حدثنا مشيخة لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إليهم.

قال داود بن علي : سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث ، فضعفه وقال : ليس بشيء ، إنما يقول حدثني الأشياخ ، قال أبو عمر : ولو كان ثابتا لاحتمل أن يكون مخالفا للأحاديث المروية عن ابن عباس وعائشة وسلمة بن المحبق وغيرهم ، لأنه جائز أن يكون معنى حديث ابن عكيم ( ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ) قبل الدباغ ; وإذا احتمل ألا يكون مخالفا فليس لنا أن نجعله مخالفا ، وعلينا أن نستعمل الخبرين ما أمكن ، وحديث عبد الله بن عكيم وإن كان قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بشهر كما جاء في الخبر فيمكن أن تكون قصة ميمونة وسماع ابن عباس منه أيما إهاب دبغ فقد طهر قبل موته بجمعة أو دون جمعة ، والله أعلم.

الثامنة : المشهور عندنا أن جلد الخنزير لا يدخل في الحديث ولا يتناوله العموم ، وكذلك الكلب عند الشافعي.

وعند الأوزاعي وأبي ثور : لا يطهر بالدباغ إلا جلد ما يؤكل لحمه.

وروى معن بن عيسى عن مالك أنه سئل عن جلد الخنزير إذا دبغ فكرهه.

قال ابن وضاح : وسمعت سحنونا يقول لا بأس به ; وكذلك قال محمد بن عبد الحكم وداود بن علي وأصحابه ; لقوله - عليه السلام - : أيما مسك دبغ فقد طهر.

قال أبو عمر : يحتمل أن يكون أراد بهذا القول عموم الجلود المعهود الانتفاع بها ، فأما الخنزير فلم يدخل في المعنى لأنه غير معهود الانتفاع بجلده ، إذ لا تعمل فيه الذكاة.

ودليل آخر وهو ما قاله النضر بن شميل : إن الإهاب جلد البقر والغنم والإبل ، وما عداه فإنما يقال له : جلد لا إهاب.

قلت : وجلد الكلب وما لا يؤكل لحمه أيضا غير معهود الانتفاع به فلا يطهر ; وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : أكل كل ذي ناب من السباع حرام فليست الذكاة فيها ذكاة ، كما أنها ليست في الخنزير ذكاة.

وروى النسائي عن المقدام بن معديكرب قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحرير والذهب ومياثر النمورالتاسعة : اختلف الفقهاء في الدباغ التي تطهر به جلود الميتة ما هو ؟ فقال أصحاب مالك وهو المشهور من مذهبه : كل شيء دبغ الجلد من ملح أو قرظ أو شب أو غير ذلك فقد جاز الانتفاع به.

وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه ، وهو قول داود.

وللشافعي في هذه المسألة قولان : أحدهما : هذا ، والآخر أنه لا يطهر إلا الشب والقرظ ; لأنه الدباغ المعهود على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعليه خرج الخطابي - والله أعلم - ما رواه النسائي عن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحصان ; فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو أخذتم إهابها قالوا.

إنها ميتة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يطهرها الماء والقرظ.

العاشرة : قوله تعالى : أثاثا الأثاث متاع البيت ، واحدها أثاثة ; هذا قول أبي زيد الأنصاري.

وقال الأموي : الأثاث متاع البيت ، وجمعه آثة وأثث.

وقال غيرهما : الأثاث جميع أنواع المال ولا واحد له من لفظه.

وقالالخليل : أصله من الكثرة واجتماع بعض المتاع إلى بعض حتى يكثر ; ومنه شعر أثيث أي كثير.

وأث شعر فلان يأث أثا إذا كثر والتف ; قال امرؤ القيس :وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكلوقيل : الأثاث ما يلبس ويفترش.

وقد تأثثت إذا اتخذت أثاثا.

وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أثاثا مالا.

وقد تقدم القول في الحين ; وهو هنا وقت غير معين بحسب كل إنسان ، إما بموته وإما بفقد تلك الأشياء التي هي أثاث.

ومن هذه اللفظة قول الشاعر :أهاجتك الظعائن يوم بانوا بذي الزي الجميل من الأثاث.

تفسير الطبري

يقول تعالى ذكره ( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ ) أيها الناس، ( مِنْ بُيُوتِكُمْ ) التي هي من الحجر والمدر، ( سَكَنًا ) تسكنون أيام مقامكم في دوركم وبلادكم ( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا ) وهي البيوت من الأنطاع والفساطيط من الشعر والصوف والوبر.

( تَسْتَخِفُّونَهَا ) يقول: تستخفون حملها ونقلها، ( يَوْمَ ظَعْنِكُمْ ) من بلادكم وأمصاركم لأسفاركم، ( وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ) في بلادكم وأمصاركم.

( وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا ).

وبنحو الذي قلنا في معنى السكن قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن ، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ( مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا ) قال: تسكنون فيه.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

وأما الأشعار فجمع شَعْر تثقل عينه وتخفف، وواحد الشَّعْر شَعْرة.

وأما الأثاث فإنه متاع البيت لم يسمع له بواحد، وهو في أنه لا واحد له مثل المتاع.

وقد حكي عن بعض النحويين أنه كان يقول: واحد الأثاث أثاثة ولم أر أهل العلم بكلام العرب يعرفون ذلك.

ومن الدليل على أن الأثاث هو المتاع، قول الشاعر:أهاجَتْكَ الظَّعائِنُ يَوْمَ بانُوابِذِي الرّئْيِ الجَمِيلِ مِنَ الأثاث (1)ويروى: بذي الزيّ ، وأنا أرى أصل الأثاث اجتماع بعض المتاع إلى بعض حتى يكثر كالشعر الأثيث وهو الكثير الملتف، يقال منه، أثّ شعر فلان يئِثّ أثًّا: إذا كثر والتفّ واجتمع.

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (أثاثا) يعني بالأثاث: المال.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى (أثاثا) قال: متاعا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (أثاثا) قال: هو المال.

حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن حرب الرازي، قال: أخبرنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن حميد بن عبد الرحمن، في قوله (أثاثا) قال: الثياب.

وقوله ( وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ) فإنه يعني: أنه جعل ذلك لهم بلاغا، يتبلَّغون ويكتفون به إلى حين آجالهم للموت.

كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ) فإنه يعني: زينة، يقول: ينتفعون به إلى حين.

حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ) قال: إلى الموت.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن مَعْمر، عن قتادة ( وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ) إلى أجل وبلغة.