الآية 44 من سورة النمل
قال تعالى: (قِيلَ لَهَا ٱدۡخُلِي ٱلصَّرۡحَۖ فَلَمَّا رَأَتۡهُ حَسِبَتۡهُ لُجَّةٗ وَكَشَفَتۡ عَن سَاقَيۡهَاۚ قَالَ إِنَّهُۥ صَرۡحٞ مُّمَرَّدٞ مِّن قَوَارِيرَۗ قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي ظَلَمۡتُ نَفۡسِي وَأَسۡلَمۡتُ مَعَ سُلَيۡمَٰنَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ) [النمل - الآية 44]
تفسير جلالين
«قيل لها» أيضاً «ادخلي الصرح» هو سطح من زجاج أبيض شفاف تحته ماء عذب جار فيه سمك اصطنعه سليمان لما قيل له إن ساقيها وقدميها كقدمي الحمار «فلما رأته حسبته لجة» من الماء «وكشفت عن ساقيها» لتخوضه وكان سليمان على سريره في صدر الصرح فرأى ساقيها وقدميها حساناً «قال» لها «إنه صرح ممرد» مملس «من قوارير» من زجاج ودعاها إلى الإسلام «قالت رب إني ظلمت نفسي» بعبادة غيرك «وأسلمت» كائنة «مع سليمان لله رب العالمين» وأراد تزوجها فكره شعر ساقيها فعملت له الشياطين النورة فأزالته بها فتزوجها وأحبها وأقرها على ملكها وكان يزورها في كل شهر مرة ويقيم عندها ثلاثة أيام وانقضى ملكها بانقضاء ملك سليمان روي أنه ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة فسبحان من لا انقضاء لدوام ملكه.
تفسير السعدي
ف قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً ماء لأن القوارير شفافة، يرى الماء الذي تحتها كأنه بذاته يجري ليس دونه شيء، وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا للخياضة وهذا أيضا من عقلها وأدبها، فإنها لم تمتنع من الدخول للمحل الذي أمرت بدخوله لعلمها أنها لم تستدع إلا للإكرام وأن ملك سليمان وتنظيمه قد بناه على الحكمة ولم يكن في قلبها أدنى شك من حالة السوء بعد ما رأت ما رأت.
فلما استعدت للخوض قيل لها: إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ أي: مملس مِنْ قَوَارِيرَ فلا حاجة منك لكشف الساقين.
فحينئذ لما وصلت إلى سليمان وشاهدت ما شاهدت وعلمت نبوته ورسالته تابت ورجعت عن كفرها و قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فهذا ما قصه الله علينا من قصة ملكة سبأ وما جرى لها مع سليمان، وما عدا ذلك من الفروع المولدة والقصص الإسرائيلية فإنه لا يتعلق بالتفسير لكلام الله وهو من الأمور التي يقف الجزم بها، على الدليل المعلوم عن المعصوم، والمنقولات في هذا الباب كلها أو أكثرها ليس كذلك، فالحزم كل الحزم، الإعراض عنها وعدم إدخالها في التفاسير.
والله أعلم.
تفسير بن كثير
وقوله : ( قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها ) وذلك أن سليمان ، عليه السلام أمر الشياطين فبنوا لها قصرا عظيما من قوارير ، أي : من زجاج ، وأجرى تحته الماء ، فالذي لا يعرف أمره يحسب أنه ماء ، ولكن الزجاج يحول بين الماشي وبينه.
واختلفوا في السبب الذي دعا سليمان ، عليه السلام ، إلى اتخاذه ، فقيل : إنه لما عزم على تزويجها واصطفائها لنفسه ; ذكر له جمالها وحسنها ، ولكن في ساقيها هلب عظيم ، ومؤخر أقدامها كمؤخر الدابة.
فساءه ذلك ، فاتخذ هذا ليعلم صحته أم لا ؟ - هذا قول محمد بن كعب القرظي ، وغيره - فلما دخلت وكشفت عن ساقيها ، رأى أحسن الناس وأحسنه قدما ، ولكن رأى على رجليها شعرا ; لأنها ملكة ليس لها بعل فأحب أن يذهب ذلك عنها فقيل لها : الموسى ؟ فقالت : لا أستطيع ذلك.
وكره سليمان ذلك ، وقال للجن : اصنعوا شيئا غير الموسى يذهب به هذا الشعر ، فصنعوا له النورة.
وكان أول من اتخذت له النورة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، ومحمد بن كعب القرظي ، والسدي ، وابن جريج ، وغيرهم.
وقال محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان : ثم قال لها : ادخلي الصرح ، ليريها ملكا هو أعز من ملكها ، وسلطانا هو أعظم من سلطانها.
فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها ، لا تشك أنه ماء تخوضه ، فقيل لها : إنه صرح ممرد من قوارير.
فلما وقفت على سليمان ، دعاها إلى عبادة الله وعاتبها في عبادتها الشمس من دون الله.
وقال الحسن البصري : لما رأت العلجة الصرح عرفت - والله - أن قد رأت ملكا أعظم من ملكها.
وقال محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه قال : أمر سليمان بالصرح ، وقد عملته له الشياطين من زجاج ، كأنه الماء بياضا.
ثم أرسل الماء تحته ، ثم وضع له فيه سريره ، فجلس عليه ، وعكفت عليه الطير والجن والإنس ، ثم قال : ادخلي الصرح ، ليريها ملكا هو أعز من ملكها ، وسلطانا هو أعظم من سلطانها ( فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها ) ، لا تشك أنه ماء تخوضه ، قيل لها : ( إنه صرح ممرد من قوارير ) ، فلما وقفت على سليمان ، دعاها إلى عبادة الله ، عز وجل ، وعاتبها في عبادتها الشمس من دون الله.
فقالت بقول الزنادقة ، فوقع سليمان ساجدا إعظاما لما قالت ، وسجد معه الناس ، فسقط في يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع ، فلما رفع سليمان رأسه قال : ويحك ! ماذا قلت ؟ - قال : وأنسيت ما قالت فقالت : ( رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) ، فأسلمت وحسن إسلامها.
وقد روى الإمام أبو بكر بن أبي شيبة في هذا أثرا غريبا عن ابن عباس ، قال : حدثنا الحسين بن علي ، عن زائدة ، حدثني عطاء بن السائب ، حدثنا مجاهد ، ونحن في الأزد - قال : حدثنا ابن عباس قال : كان سليمان ، عليه السلام ، يجلس على سريره ، ثم توضع كراسي حوله ، فيجلس عليها الإنس ، ثم يجلس الجن ، ثم الشياطين ، ثم تأتي الريح فترفعهم ، ثم تظلهم الطير ، ثم يغدون قدر ما يشتهي الراكب أن ينزل شهرا ورواحها شهرا ، قال : فبينما هو ذات يوم في مسير له ، إذ تفقد الطير ففقد الهدهد فقال : ( ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين ) ، قال : فكان عذابه إياه أن ينتفه ، ثم يلقيه في الأرض ، فلا يمتنع من نملة ولا من شيء من هوام الأرض.
قال عطاء : وذكر سعيد بن جبير عن ابن عباس مثل حديث مجاهد ( فمكث غير بعيد ) - فقرأ حتى انتهى إلى قوله - ( قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا ) وكتب ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، إلى بلقيس : ( ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين ) ، فلما ألقى الهدهد بالكتاب إليها ، ألقي في روعها : إنه كتاب كريم ، وإنه من سليمان ، وأن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين.
قالوا : نحن أولو قوة.
قالت : إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ، وإني مرسلة إليهم بهدية.
فلما جاءت الهدية سليمان قال : أتمدونني بمال ، ارجع إليهم.
فلما نظر إلى الغبار - أخبرنا ابن عباس قال : وكان بين سليمان وبين ملكة سبأ ومن معها حين نظر إلى الغبار كما بيننا وبين الحيرة ، قال عطاء : ومجاهد حينئذ في الأزد - قال سليمان : أيكم يأتيني بعرشها ؟ قال : وبين عرشها وبين سليمان حين نظر إلى الغبار مسيرة شهرين ، ( قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ).
قال : وكان لسليمان مجلس يجلس فيه للناس ، كما يجلس الأمراء ثم يقوم - قال : ( أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ).
قال سليمان : أريد أعجل من ذلك.
فقال الذي عنده علم من الكتاب : أنا أنظر في كتاب ربي ، ثم آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك.
قال : [ فنظر إليه سليمان فلما قطع كلامه رد سليمان بصره ] ، فنبع عرشها من تحت قدم سليمان ، من تحت كرسي كان سليمان يضع عليه رجله ، ثم يصعد إلى السرير.
قال : فلما رأى سليمان عرشها [ مستقرا عنده ] قال : ( هذا من فضل ربي ) ، ( قال نكروا لها عرشها ) ، فلما جاءت قيل لها : أهكذا عرشك ؟ قالت : كأنه هو.
قال : فسألته عن أمرين ، قالت لسليمان : أريد ماء [ من زبد رواء ] ليس من أرض ولا من سماء - وكان سليمان إذا سئل عن شيء ، سأل الإنس ثم الجن ثم الشياطين.
[ قال ] فقالت الشياطين : هذا هين ، أجر الخيل ثم خذ عرقها ، ثم املأ منه الآنية.
قال : فأمر بالخيل فأجريت ، ثم أخذ عرقها فملأ منه الآنية.
قال : وسألت عن لون الله عز وجل.
قال : فوثب سليمان عن سريره ، فخر ساجدا ، فقال : يا رب ، لقد سألتني عن أمر إنه يتكايد ، أي : يتعاظم في قلبي أن أذكره لك.
قال : ارجع فقد كفيتكهم ، قال : فرجع إلى سريره فقال : ما سألت عنه ؟ قالت : ما سألتك إلا عن الماء.
فقال لجنوده : ما سألت عنه ؟ فقالوا : ما سألتك إلا عن الماء.
قال : ونسوه كلهم.
قال : وقالت الشياطين لسليمان : تريد أن تتخذها لنفسك ، فإن اتخذها لنفسه ثم ولد بينهما ولد ، لم ننفك من عبوديته.
قال : فجعلوا صرحا ممردا من قوارير ، فيه السمك.
قال : فقيل لها : ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة ، وكشفت عن ساقيها ، فإذا هي شعراء.
فقال سليمان : هذا قبيح ، ما يذهبه ؟ فقالوا : تذهبه المواسي.
فقال : أثر الموسى قبيح ! قال : فجعلت الشياطين النورة.
قال : فهو أول من جعلت له النورة.
ثم قال أبو بكر بن أبي شيبة : ما أحسنه من حديث.
قلت : بل هو منكر غريب جدا ، ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس ، والله أعلم.
والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب ، مما يوجد في صحفهم ، كروايات كعب ووهب - سامحهما الله تعالى - فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل ، من الأوابد والغرائب والعجائب ، مما كان وما لم يكن ، ومما حرف وبدل ونسخ.
وقد أغنانا الله ، سبحانه ، عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ ، ولله الحمد والمنة.
أصل الصرح في كلام العرب : هو القصر ، وكل بناء مرتفع ، قال الله ، سبحانه وتعالى ، إخبارا عن فرعون - لعنه الله - أنه قال لوزيره هامان ( ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى ) الآية [ غافر : 36 ، 37 ].
والصرح : قصر في اليمن عالي البناء ، والممرد أي : المبني بناء محكما أملس ( من قوارير ) أي : زجاج.
وتمريد البناء تمليسه.
ومارد : حصن بدومة الجندل.
والغرض أن سليمان ، عليه السلام ، اتخذ قصرا عظيما منيفا من زجاج لهذه الملكة ; ليريها عظمة سلطانه وتمكنه ، فلما رأت ما آتاه الله ، تعالى ، وجلالة ما هو فيه ، وتبصرت في أمره انقادت لأمر الله وعرفت أنه نبي كريم ، وملك عظيم ، فأسلمت لله ، عز وجل ، وقالت : ( رب إني ظلمت نفسي ) أي : بما سلف من كفرها وشركها وعبادتها وقومها الشمس من دون الله ، ( وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) أي : متابعة لدين سليمان في عبادته لله وحده ، لا شريك له ، الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا.
تفسير الوسيط للطنطاوي
ثم ختم- سبحانه- هذه القصة ببيان ما فاجأها به سليمان، لتزداد يقينا بوحدانية الله- تعالى-، وبعظم النعم التي أعطاها- سبحانه- له فقال: يلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها.
والصرح: القصر ويطلق على كل بناء مرتفع.
ومنه قوله- تعالى-: وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ ويطلق- أيضا- على صحن الدار وساحته.
يقال: هذه صرحة الدار.
أى: ساحتها وعرصتها.
وكان سليمان- عليه السلام- قد بنى هذا الصرح، وجعل بلاطه من زجاج نقى صاف كالبلور.
بحيث يرى الناظر ما يجرى تحته من ماء.
أى: قال سليمان لملكة سبأ بعد أن سألها: أهكذا عرشك، وبعد أن أجابته بما سبق بيانه.
قال لها: ادخلى هذا القصر، فلما رأت هذا الصرح وما عليه من جمال وفخامة، حسبته لجة.
أى: ظنته ماء غزيرا كالبحر.
كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْهالئلا تبتل بالماء أذيال ثيابها.
وهنا قال سليمان مزيلا لما اعتراها من دهشة: نَّهُأى: ما حسبته لجةرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَأى: قصر مملس من زجاج لا يحجب ما وراءه.
فقوله مَرَّدٌبمعنى مملس، مأخوذ من قولهم: شجرة مرداء إذا كانت عارية من الورق، وغلام أمرد، إذا لم يكن في وجهه شعر والتمريد في البناء، معناه: التمليس والتسوية والنعومة.
والقوارير: جمع قارورة، وهي إناء من زجاج، وتطلق القارورة على المرأة، لأن الولد يقر في رحمها، أو تشبيها لها بآنية الزجاج من حيث ضعفها، ومنه الحديث الشريف: «رفقا بالقوارير».
والمراد بالقوارير هنا.
المعنى الأول.
ثم حكى- سبحانه- ما قالته بلقيس بعد أن رأت جانبا من عجائب صنع الله فقال:قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِيأى: بسبب عبادتي لغيرك قبل هذا الوقت.
أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَطائعة مختارة، وإسلامى إنما هولَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَوليس لأحد سواه.
وبعد، فهذا تفسير محرر لتلك القصة، وقد أعرضنا عن كثير من الإسرائيليات التي حشا بها بعض المفسرين تفاسيرهم، عند حديثهم عن الآيات التي وردت في هذه القصة، ومن ذلك ما يتعلق بسليمان- عليه السلام- وبجنوده من الطير.
وبمحاورة النملة له، وبالهدية التي أرسلتها ملكة سبأ إليه، وبما قالته الشياطين لسليمان عن هذه المرأة.
إلخ وقد اشتملت هذه القصة على عبر وعظات وأحكام وآداب، من أهمها ما يأتى:1- أن الله- تعالى- قد أعطى- بفضله وإحسانه- داود وسليمان عليهما السلام- نعما عظيمة، على رأسها نعمة النبوة، والملك، والعلم النافع.
وأنهما قد قابلا هذه النعم بالشكر لله- تعالى- واستعمالها فيما خلقت له.
ونرى ذلك في قوله- تعالى-: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً، وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ.
وفي قوله- تعالى-: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ، وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ.
وفي قوله- سبحانه-: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ، وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ.
2- أن سليمان- عليه السلام- قد أقام دولته على الإيمان بالله- تعالى- وعلى العلم النافع، وعلى القوة العادلة.
أما الإيمان بالله- تعالى- وإخلاص العبادة له- سبحانه-، فهو كائن له- عليه السلام- بمقتضى نبوته التي اختاره الله لها، وبمقتضى دعوته غيره إلى وحدانية الله- عز وجل- فقد حكى القرآن عنه أنه قال في رسالته إلى ملكة سبأ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ.
وأما العلم النافع، فيكفى أن القصة الكريمة قد افتتحت بقوله- تعالى-: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً.
واشتملت على قوله- سبحانه-: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ.
وعلى قوله- عز وجل-: قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ.
وأما القوة، فنراها في قوله- تعالى-: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ.
وفي قوله- سبحانه- ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها، وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ.
3- أن سليمان عليه السلام كانت رسالته الأولى نشر الإيمان بالله- تعالى- في الأرض، وتطهيرها من كل معبود سواه.
والدليل على ذلك أن الهدهد عند ما أخبره بحال الملكة التي كانت هي وقومها يعبدون الشمس من دون الله.
ما كان من سليمان- عليه السلام- إلا أن حمله كتابا قويا بليغا يأمرهم فيه بترك التكبر والغرور، وبإسلام وجوههم لله وحده: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ.
4- أن سليمان- عليه السلام- كان يمثل الحاكم اليقظ المتنبه لأحوال رعيته، حيث يعرف شئونها الصغيرة والكبيرة، ويعرف الحاضر من أفرادها والغائب، حتى ولو كان الغائب طيرا صغيرا، من بين آلاف الخلائق الذين هم تحت قيادته.
ولقد صور القرآن ما كان عليه سليمان- عليه السلام- من يقظة ودراية بأفراد رعيته أبدع تصوير فقال: وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين.
قال الإمام القرطبي- رحمه الله-: في هذه الآية دليل على تفقد الإمام أحوال رعيته، والمحافظة عليهم، فانظر إلى الهدهد مع صغره، كيف لم يخف على سليمان حاله، فكيف بعظام الملك.
ثم يقول- رحمه الله- على سبيل التفجع والشكوى عن حال الولاة في عهده: فما ظنك بوال تذهب على يديه البلدان، وتضيع الرعية ويضيع الرعيان.
ورحم الله القائل:وهل أفسد الدين إلا الملوك.
وأحبار سوء ورهبانها5- أن سليمان- عليه السلام- كان بجانب تعهده لشئون رعيته، يمثل الحاكم الحازم العادل، الذي يحاسب المهمل، ويتوعد المقصر، ويعاقب من يستحق العقاب، وفي الوقت نفسه يقبل عذر المعتذر متى اعتذر عذرا مشروعا ومقنعا.
انظر إليه وهو يقول- كما حكى القرآن عنه- عند ما تفقد الهدهد فلم يجده: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ.
إن الجيوش الجرارة التي تحت قيادة سليمان- عليه السلام- لا تؤثر فيها غياب هدهد منها.
ولكن سليمان القائد الحازم، كأنه يريد أن يعلم جنوده، أن لكل جندي رسالته التي يجب عليه أن يؤديها على الوجه الأكمل سواء أكان هذا الجندي صغيرا أم كبيرا، وأن من فرط في الأمور الصغيرة، لا يستبعد منه أن يفرط في الأمور الكبيرة.
6- أن الجندي الصغير في الأمة التي يظلها العدل والحرية والأمان.
لا يمنعه صغره من أن يرد على الحاكم الكبير، بشجاعة وقوة.
انظر إلى الهدهد- مع صغره- يحكى عنه القرآن، أنه رد على نبي الله سليمان الذي آتاه الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده بقوله: أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ.
ونجد سليمان- عليه السلام- لا يؤاخذه على هذا القول، بل يضع قوله موضع التحقيق والاختبار فيقول له: سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ.
وهكذا الأمم العاقلة الرشيدة، لا يهان فيها الصغير، ولا يظلم فيها الكبير.
7- أن حكمة الله- تعالى- قد اقتضت أن تتألف الأمم من حاكمين ومحكومين، وأن كل فريق له حقوق وعليه واجبات، وأن الأمم لا تصلح بدون حاكم يحكمها ويرعى شئونها، ويحق الحق ويبطل الباطل.
قال القرطبي عند تفسيره لقوله- تعالى-: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ: في الآية دليل على اتخاذ الإمام والحكام وزعة- أى ولاة، أو قضاة- يكفون الناس ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض.
قال ابن عون: سمعت الحسن يقول وهو في مجلس قضائه: والله ما يصلح هؤلاء الناس إلا وزعة.
ومن الأقوال الحكيمة لأمير المؤمنين عثمان بن عفان- رضى الله عنه- «إن الله ليزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن».
8- أن الحاكم العاقل هو الذي يستشير من هو أهل للاستشارة في الأمور التي تهم الأمة.
فها هي ذي ملكة سبأ عند ما جاءها كتاب سليمان- عليه السلام- جمعت وجوه قومها، وقالت لهم- كما حكى القرآن عنها: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي، ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ.
قال القرطبي: وفي هذه الآية دليل على صحة المشاورة.
وقد قال الله- تعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلم وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ وقد مدح الله الفضلاء بقوله: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ والمشاورة من الأمر القديم وخاصة في الحرب، فهذه بلقيس امرأة جاهلية كانت تعبد الشمس من دون الله قالت: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي.
لتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم.
وربما كان في استبدادها برأيها وهن في طاعتها، وكان في مشاورتهم وأخذ رأيهم عون على ما تريده من شوكتهم، وشدة مدافعتهم، ألا ترى إلى قولهم في جوابهم: نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ.
9- أن الهدية إذا لمس المهدى إليه من ورائها، عدم الإخلاص في إهدائها.
وأن المقصد منها صرفه عن حق يقيمه، أو عن باطل يزيله.
فإن الواجب عليه أن يرد هذه الهدية لصاحبها.
وأن يمتنع عن قبولها.
ألا ترى إلى سليمان- عليه السلام- قد رد الهدية الثمينة التي أهدتها بلقيس إليه، حين أحس أن من وراء هذه الهدية شيئا.
يتنافى مع تبليغ وتنفيذ رسالة الله- تعالى- التي أمره بتبليغها وتنفيذها، ألا وهي: الأمر بإخلاص العبادة لله- تعالى- والنهى عن الإشراك به، وبلقيس إنما كانت تقصد بهديتها، اختبار سليمان، أنبى هو أم ملك، كما سبق أن أشرنا.
لذا وجدنا القرآن يحكى عن سليمان- عليه السلام- أنه رد هذه الهدية مع من جاءوا بها، وقال: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ، فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ.
10- أن ملكة سبأ دل تصرفها على أنها كانت ملكة عاقلة رشيدة، حكيمة، فقد استشارت خاصتها في كتاب سليمان- عليه السلام-، ولوحت لهم بقوته وبما سيترتب على حربه، وآثرت أن تقدم له هدية على سبيل الامتحان، واستحبت المسالمة على المحاربة.
وكان عندها الاستعداد لقبول الحق والدخول فيه، وما أخرها عن المسارعة إليه إلا لكونها كانت من قوم كافرين.
وعند ما التقت بسليمان، وانكشفت لها الحقائق سارعت إلى الدخول في الدين الحق، وقالت: بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
هذه بعض العبر والعظات التي تؤخذ من هذه القصة.
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك جانبا من قصة صالح- عليه السلام- مع قومه، فقال- تعالى-:.
تفسير البغوي
قوله - عز وجل - : ( قيل لها ادخلي الصرح ) الآية ، وذلك أن سليمان أراد أن ينظر إلى قدميها وساقيها من غير أن يسألها كشفها ، لما قالت الشياطين : إن رجليها كحافر الحمار ، وهي شعراء الساقين ، أمر الشياطين فبنوا له صرحا أي : قصرا من زجاج ، وقيل بيتا من زجاج كأنه الماء بياضا ، وقيل : الصرح صحن الدار ، وأجرى تحته الماء ، وألقى فيه كل شيء من دواب البحر السمك والضفادع وغيرهما ، ثم وضع سريره في صدره وجلس عليه وعكفت عليه الطير والجن والإنس.
وقيل : اتخذ صحنا من قوارير وجعل تحتها تماثيل من الحيتان والضفادع ، فكان الواحد إذا رآه ظنه ماء.
وقيل : إنما بنى الصرح ليختبر فهمها كما فعلت هي بالوصفاء والوصائف فلما جلس على السرير دعا بلقيس ، فلما جاءت قيل لها ادخلي الصرح.
( فلما رأته حسبته لجة ) وهي معظم الماء ، ( وكشفت عن ساقيها ) لتخوضه إلى سليمان ، فنظر سليمان فإذا هي أحسن الناس قدما وساقا إلا أنها كانت شعراء الساقين ، فلما رأى سليمان ذلك صرف بصره عنه وناداها ( قال إنه صرح ممرد ) مملس مستو ، ( من قوارير ) وليس بماء ، ثم إن سليمان دعاها إلى الإسلام ، وكانت قد رأت حال العرش والصرح فأجابت ، و ( قالت رب إني ظلمت نفسي ) بالكفر.
وقال مقاتل : لما رأت السرير والصرح علمت أن ملك سليمان من الله فقالت : رب إني ظلمت نفسي بعبادة غيرك ، ( وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) أي : أخلصت له التوحيد.
وقيل : إنها لما بلغت الصرح وظنته لجة ، قالت في نفسها : إن سليمان يريد أن يغرقني ، وكان القتل علي أهون من هذا ، فقولها : " ظلمت نفسي " تعني بذلك الظن.
واختلفوا في أمرها بعد إسلامها ، قال عون بن عبد الله : سأل رجل عبد الله بن عتبة : هل تزوجها سليمان ؟ قال : انتهى أمرها إلى قولها : أسلمت مع سليمان لله رب العالمين ، يعني : لا علم لنا وراء ذلك.
وقال بعضهم : تزوجها ، ولما أراد أن يتزوجها كره ما رأى من كثرة شعر ساقيها ، فسأل الإنس : ما يذهب هذا ؟ قالوا : الموسى ، فقالت المرأة : لم تمسني حديدة قط ، فكره سليمان الموسى ، وقال : إنها تقطع ساقيها ، فسأل الجن فقالوا : لا ندري ، ثم سأل الشياطين فقالوا : إنا نحتال لك حيلة حتى تكون كالفضة البيضاء ، فاتخذوا النورة والحمام ، فكانت النورة والحمامات من يومئذ فلما تزوجها سليمان أحبها حبا شديدا ، وأقرها على ملكها ، وأمر الجن فابتنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعا وحسنا ، وهي : سلحين وبينون وعمدان.
ثم كان سليمان يزورها في كل شهر مرة بعد أن ردها إلى ملكها ويقيم عندها ثلاثة أيام ، يبتكر من الشام إلى اليمن ، ومن اليمن إلى الشام ، وولدت له فيما ذكر وروي عن وهب قال : زعموا أن بلقيس لما أسلمت قال لها سليمان : اختاري رجلا من قومك أزوجكه ، قالت : ومثلي يا نبي الله تنكح الرجال وقد كان لي في قومي من الملك والسلطان ما كان ؟ قال : نعم ، إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك ، ولا ينبغي لك أن تحرمي ما أحل الله لك ، فقالت : زوجني إن كان لا بد من ذلك ذا تبع ملك همذان فزوجه إياها ، ثم ردها إلى اليمن ، وسلط زوجها ذا تبع على اليمن ، ودعا زوبعة أمير جن اليمن ، فقال : اعمل لذي تبع ما استعملك فيه ، فلم يزل بها ملكا يعمل له فيها ما أراد حتى مات سليمان ، فلما أن حال الحول ، وتبينت الجن موت سليمان أقبل رجل منهم فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته : يا معشر الجن إن الملك سليمان قد مات ، فارفعوا أيديكم فرفعوا أيديهم وتفرقوا ، وانقضى ملك ذي تبع ، وملك بلقيس مع ملك سليمان.
وقيل : إن الملك وصل إلى سليمان وهو ابن ثلاث عشرة سنة ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة.
تفسير القرطبي
قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة التقدير عند سيبويه : ادخلي إلى الصرح فحذف ( إلى ) وعدي الفعل.
وأبو العباس يغلطه في هذا ; قال : لأن ( دخل ) يدل على مدخول.
وكان الصرح صحنا من زجاج تحته ماء وفيه الحيتان ، عمله ليريها ملكا أعظم من ملكها ; قاله مجاهد.
وقال قتادة : كان من قوارير خلفه ماء حسبته لجة أي ماء.
وقيل : الصرح : القصر ; عن أبي عبيدة.
كما قال :تحسب أعلامهن الصروحاوقيل : الصرح : الصحن ; كما يقال : هذه صرحة الدار وقاعتها ; بمعنى.
وحكى أبو عبيدة في الغريب المصنف أن الصرح كل بناء عال مرتفع من الأرض ، وأن الممرد الطويل.
النحاس : أصل هذا أنه يقال لكل بناء عمل عملا واحدا : صرح ; من قولهم : لبن صريح : إذا لم يشبه ماء ; ومن قولهم : صرح بالأمر ، ومنه : عربي صريح.
وقيل : عمله ليختبر قول الجن فيها : إن أمها من الجن ، ورجلها رجل حمار ; قاله وهب بن منبه.
فلما رأت اللجة فزعت وظنت أنه قصد بها الغرق ، وتعجبت من كون كرسيه على الماء ، ورأت ما هالها ، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر.
وكشفت عن ساقيها فإذا هي أحسن الناس ساقا ; سليمة مما قالت الجن ، غير أنها كانت كثيرة الشعر ، فلما بلغت هذا الحد ، قال لها سليمان بعد أن صرف بصره عنها : إنه صرح ممرد من قوارير والممرد المحكوك المملس ، ومنه الأمرد.
وتمرد الرجل : إذا أبطأ خروج لحيته بعد إدراكه ; قاله الفراء.
ومنه الشجرة المرداء التي لا ورق عليها.
ورملة مرداء إذا كانت لا تنبت.
والممرد أيضا المطول ، ومنه قيل للحصن مارد.
أبو صالح : طويل على هيئة النخلة.
ابن شجرة : واسع في طوله وعرضه.
قال :غدوت صباحا باكرا فوجدتهم قبيل الضحى في السابري الممردأي الدروع الواسعة.
وعند ذلك استسلمت بلقيس وأذعنت وأسلمت وأقرت على نفسها بالظلم ; على ما يأتي.
ولما رأى سليمان عليه السلام قدميها قال لناصحه من الشياطين : كيف لي أن أقلع هذا الشعر من غير مضرة بالجسد ؟ فدله على عمل النورة ، فكانت النورة والحمامات من يومئذ.
فيروى أن سليمان تزوجها عند ذلك وأسكنها الشام ; قاله الضحاك.
وقال سعيد بن عبد العزيز في كتاب النقاش : تزوجها وردها إلى ملكها : باليمن ، وكان يأتيها على الريح كل شهر مرة ; فولدت له غلاما سماه داود مات في زمانه.
وفي بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كانت بلقيس من أحسن نساء العالمين ساقين وهي من أزواج سليمان عليه السلام في الجنة فقالت عائشة : هي أحسن ساقين مني ؟ فقال عليه السلام : أنت أحسن ساقين منها في الجنة ذكره القشيري.
وذكر الثعلبي عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أول من اتخذ الحمامات سليمان بن داود فلما ألصق ظهره إلى الجدار فمسه حرها قال أواه من عذاب الله.
ثم أحبها حبا شديدا وأقرها على ملكها باليمن ، وأمر الجن فبنوا لها ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعا : سلحون وبينون وعمدان ، ثم كان سليمان يزورها في كل شهر مرة ، ويقيم عندها ثلاثة أيام.
وحكى الشعبي أن ناسا من حمير حفروا مقبرة الملوك ، فوجدوا فيها قبرا معقودا فيه امرأة عليها حلل منسوجة بالذهب ، وعند رأسها لوح رخام فيه مكتوب :يا أيها الأقوام عوجوا معا وأربعوا في مقبري العيسالتعلموا أني تلك التي قد كنت أدعى الدهر بلقيساشيدت قصر الملك في حمير قومي وقدما كان مأنوساوكنت في ملكي وتدبيره أرغم في الله المعاطيسابعلي سليمان النبي الذي قد كان للتوراة دريساوسخر الريح له مركبا تهب أحيانا رواميسامع ابن داود النبي الذي قدسه الرحمن تقديساوقال محمد بن إسحاق ووهب بن منبه : لم يتزوجها سليمان ، وإنما قال لها : اختاري زوجا ; فقالت : مثلي لا ينكح وقد كان لي من الملك ما كان.
فقال : لا بد في الإسلام من ذلك.
فاختارت ذا تبع ملك همدان ، فزوجه إياها وردها إلى اليمن ، وأمر زوبعة أمير جن اليمن أن يطيعه ، فبنى له المصانع ، ولم يزل أميرا حتى مات سليمان.
وقال قوم : لم يرد فيه خبر صحيح لا في أنه تزوجها ولا في أنه زوجها.
وهي بلقيس بنت السرح بن الهداهد بن شراحيل بن أدد بن حدر بن السرح بن الحرس بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح.
وكان جدها الهداهد ملكا عظيم الشأن قد ولد له أربعون ولدا كلهم ملوك ، وكان ملك أرض اليمن كلها ، وكان أبوها السرح يقول لملوك الأطراف : ليس أحد منكم كفؤا لي ، وأبى أن يتزوج منهم ، فزوجوه امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن ، فولدت له بلقمة وهي بلقيس ، ولم يكن له ولد غيرها.
وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم : كان أحد أبوي بلقيس جنيا فمات أبوها ، واختلف عليها قومها فرقتين ، وملكوا أمرهم رجلا فساءت سيرته ، حتى فجر بنساء رعيته ، فأدركت بلقيس الغيرة ، فعرضت عليه نفسها فتزوجها ، فسقته الخمر حتى حزت رأسه ، ونصبته على باب دارها فملكوها.
وقال أبو بكرة : ذكرت بلقيس عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة.
ويقال : إن سبب تزوج أبيها من الجن أنه كان وزيرا لملك عات يغتصب نساء الرعية ، وكان الوزير غيورا فلم يتزوج ، فصحب مرة في الطريق رجلا لا يعرفه ، فقال هل لك من زوجة ؟ فقال : لا أتزوج أبدا ، فإن ملك بلدنا يغتصب النساء من أزواجهن ، فقال لئن تزوجت ابنتي لا يغتصبها أبدا.
قال : بل يغتصبها.
قال : إنا قوم من الجن لا يقدر علينا ; فتزوج ابنته فولدت له بلقيس ; ثم ماتت الأم وابتنت بلقيس قصرا في الصحراء ، فتحدث أبوها بحديثها غلطا ، فنمى للملك خبرها فقال له : يا فلان تكون عندك هذه البنت الجميلة وأنت لا تأتيني بها ، وأنت تعلم حبي للنساء ثم أمر بحبسه ، فأرسلت بلقيس إليه إني بين يديك ; فتجهز للمسير إلى قصرها ، فلما هم بالدخول بمن معه أخرجت إليه الجواري من بنات الجن مثل صورة الشمس ، وقلن له ألا تستحي ؟ تقول لك سيدتنا : أتدخل بهؤلاء الرجال معك على أهلك ؟ فأذن لهم بالانصراف ودخل وحده ، وأغلقت عليه الباب وقتلته بالنعال ، وقطعت رأسه ورمت به إلى عسكره ، فأمروها عليهم ، فلم تزل كذلك إلى أن بلغ الهدهد خبرها سليمان عليه السلام.
وذلك أن سليمان لما نزل في بعض منازله قال الهدهد : إن سليمان قد اشتغل بالنزول ، فارتفع نحو السماء فأبصر طول الدنيا وعرضها ، فأبصر الدنيا يمينا وشمالا ، فرأى بستانا لبلقيس فيه هدهد ، وكان اسم ذلك الهدهد عفير ، فقال عفير اليمن ليعفور سليمان : من أين أقبلت ؟ وأين تريد ؟ قال : أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود.
قال : ومن سليمان ؟ قال : ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحش والريح وكل ما بين السماء والأرض.
فمن أين أنت ؟ قال : من هذه البلاد ; ملكها امرأة يقال لها بلقيس ، تحت يدها اثنا عشر ألف قيل ، تحت يد كل قيل مائة ألف مقاتل من سوى النساء والذراري ; فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها ، ورجع إلى سليمان وقت العصر ، وكان سليمان قد فقده وقت الصلاة فلم يجده ، وكانوا على غير ماء.
قال ابن عباس في رواية : وقعت عليه نفحة من الشمس.
فقال لوزير الطير : هذا موضع من ؟ قال : يا نبي الله هذا موضع الهدهد قال : وأين ذهب ؟ قال : لا أدري أصلح الله الملك.
فغضب سليمان وقال : لأعذبنه عذابا شديدا الآية.
ثم دعا بالعقاب سيد الطير وأصرمها وأشدها بأسا فقال : ما تريد يا نبي الله ؟ فقال : علي بالهدهد الساعة.
فرفع العقاب نفسه دون السماء حتى لزق بالهواء ، فنظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم ، فإذا هو بالهدهد مقبلا من نحو اليمن ، فانقض نحوه وأنشب فيه مخلبه.
فقال له الهدهد : أسألك بالله الذي أقدرك وقواك علي إلا رحمتني.
فقال له : الويل لك ; وثكلتك أمك ! إن نبي الله سليمان حلف أن يعذبك أو يذبحك.
ثم أتى به فاستقبلته النسور وسائر عساكر الطير.
وقالوا الويل لك ; لقد توعدك نبي الله.
فقال : وما قدري وما أنا ! أما استثنى ؟ قالوا : بلى إنه قال : أو ليأتيني بسلطان مبين ثم دخل على سليمان فرفع رأسه ، وأرخى ذنبه وجناحيه تواضعا لسليمان عليه السلام.
فقال له سليمان : أين كنت عن خدمتك ومكانك ؟ لأعذبنك عذابا شديدا أو لأذبحنك.
فقال له الهدهد : يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله بمنزلة وقوفي بين يديك.
فاقشعر جلد سليمان وارتعد وعفا عنه.
وقال عكرمة : إنما صرف الله سليمان عن ذبح الهدهد أنه كان بارا بوالديه ; ينقل الطعام إليهما فيزقهما.
ثم قال له سليمان : ما الذي أبطأ بك ؟ فقال الهدهد ما أخبر الله عن بلقيس وعرشها وقومها حسبما تقدم بيانه.
قال الماوردي : والقول بأن أم بلقيس جنية مستنكر من العقول لتباين الجنسين ، واختلاف الطبعين ، وتفارق الحسين ; لأن الآدمي جسماني والجن روحاني ، وخلق الله الآدمي من صلصال كالفخار ، وخلق الجان من مارج من نار ، ويمنع الامتزاج مع هذا التباين ، ويستحيل التناسل مع هذا الاختلاف.
قلت : قد مضى القول في هذا ، والعقل لا يحيله مع ما جاء من الخبر في ذلك ، وإذا نظر في أصل الخلق فأصله الماء على ما تقدم بيانه ، ولا بعد في ذلك ; والله أعلم.
وفي التنزيل وشاركهم في الأموال والأولاد وقد تقدم.
وقال تعالى : لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان.
على ما يأتي في ( الرحمن ).
قوله تعالى : قالت رب إني ظلمت نفسي أي بالشرك الذي كانت عليه ; قاله ابن شجرة.
وقال سفيان : أي بالظن الذي توهمته في سليمان ; لأنها لما أمرت بدخول الصرح حسبته لجة ، وأن سليمان يريد تغريقها فيه.
فلما بان لها أنه صرح ممرد من قوارير علمت أنها ظلمت نفسها بذلك الظن.
وكسرت ( إن ) لأنها مبتدأة بعد القول.
ومن العرب من يفتحها فيعمل فيها القول.
وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين إذا سكنت ( مع ) فهي حرف جاء لمعنى بلا اختلاف بين النحويين.
وإذا فتحتها ففيها قولان : أحدهما : أنه بمعنى الظرف اسم.
والآخر : أنه حرف خافض مبني على الفتح ; قاله النحاس.
تفسير الطبري
ذُكر أن سليمان لما أقبلت صاحبة سبإ تريده, أمر الشياطين فبنوا له صرحا, وهو كهيئة السطح من قوارير, وأجرى من تحته الماء ليختبر عقلها بذلك, وفهمها على نحو الذي كانت تفعل هي من توجيهها إليه الوصائف والوصفاء ليميز بين الذكور منهم والإناث معاتبة بذلك كذلك.
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلم, عن وهب بن منبه, قال: أمر سليمان بالصرح, وقد عملته له الشياطين من زجاج كأنه الماء بياضا, ثم أرسل الماء تحته, ثم وضع له فيه سريره, فجلس عليه, وعكفت عليه الطير والجنّ والإنس, ثم قال: (ادْخُلِي الصَّرْحَ ) ليريها مُلكا هو أعزُ من ملكها, وسلطانا هو أعظم من سلطانها(فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا ) لا تشكُّ أنه ماء تخوضه, قيل لها: ادخلي إنه صرح ممرّد من قوارير; فلما وقفت على سليمان دعاها إلى عبادة الله ونعى عليها في عبادتها الشمس دون الله, فقالت بقول الزنادقة, فوقع سليمان ساجدا إعظاما لما قالت, وسجد معه الناس; وسقط في يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع; فلما رفع سليمان رأسه قال: ويحك ماذا قلت؟ قال: وأُنْسِيت ما قالت: , فقالت: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) وأسلمت, فحسن إسلامها.
وقيل: إن سليمان إنما أمر ببناء الصرح على ما وصفه الله, لأن الجنّ خافت من سليمان أن يتزوّجها, فأرادوا أن يزهدوه فيها, فقالوا: إن رجلها رجل حمار, وإن أمها كانت من الجنّ, فأراد سليمان أن يعلم حقيقة ما أخبرته الجنّ من ذلك.
*ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن أبي معشر, عن محمد بن كعب القرظيّ, قال: قالت الجنّ لسليمان تزهِّده في بلقيس: إن رجلها رجل حمار, وإن أمها كانت من الجنّ.
فأمر سليمان بالصرح, فعُمِل, فسجن فيه دواب البحر: الحيتان, والضفادع; فلما بصرت بالصرح قالت: ما وجد ابن داود عذابا يقتلني به إلا الغرق؟(حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا ) قال: فإذا أحسن الناس ساقا وقدما.
قال: فضنّ سليمان بساقها عن الموسى, قال: فاتخذت النورة بذلك السبب.
وجائز عندي أن يكون سليمان أمر باتخاذ الصرح للأمرين الذي قاله وهب, والذي قاله محمد بن كعب القرظيّ, ليختبر عقلها, وينظر إلى ساقها وقدمها, ليعرف صحة ما قيل له فيها.
وكان مجاهد يقول -فيما ذكر عنه في معنى الصرح- ما حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: &; 19-474 &; ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( الصرْحَ ) قال: بركة من ماء ضرب عليها سليمان قوارير ألبسها.
قال: وكانت بلقيس هلباء شعراء, قدمها كحافر الحمار, وكانت أمها جنية.
حدثني أحمد بن الوليد الرملي, قال: ثنا هشام بن عمار, قال: ثنا الوليد بن مسلم, عن سعيد بن بشير, عن قَتادة, عن النضر بن أنس, عن بشير بن نهيك, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كان أحد أبوي صاحبة سبإ جنبا ".
قال: ثنا صفوان بن صالح, قال: ثني الوليد, عن سعيد بن بشير, عن قَتادة, عن بشير بن نهيك, عن أبي هريرة, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, ولم يذكر النضر بن أنس.
وقوله: (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً ) يقول: فلما رأت المرأة الصرح حسبته لبياضه واضطراب دواب الماء تحته لجة بحر كشفت من ساقيها؛ لتخوضه إلى سليمان.
ونحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثنا أبو سفيان, عن معمر, عن قَتادة: (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً ) قال: وكان من قوارير, وكان الماء من خلفه فحسبته لجة.
قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, قوله: (حَسِبَتْهُ لُجَّةً ) قال: بحرا.
حدثنا عمرو بن عليّ, قال: ثنا ابن سوار, قال: ثنا روح بن القاسم, عن عطاء بن السائب, عن مجاهد, في قوله: (وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا ) فإذا هما شعراوان, فقال: ألا شيء يذهب هذا؟ قالوا: الموسى, قال: لا الموسى له أثر, فأمر بالنورة فصنعت.
حدثني أبو السائب, قال: ثنا حفص, عن عمران بن سليمان, عن عكرمة وأبي صالح قالا لما تزوّج سليمان بلقيس قالت له: لم تمسني حديدة قطّ، قال سليمان للشياطين: انظروا ما يُذهب الشعر؟ قالوا: النورة, فكان أوّل من صنع النورة.
وقوله: (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ ) يقول جلّ ثناؤه: قال سليمان لها: إن هذا ليس ببحر, إنه صرح ممرّد من قوارير, يقول: إنما هو بناء مبني مشيد من قوارير.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج: ( مُمَرَّدٌ ) قال: مشيد.
وقوله: (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ ).
الآية, يقول تعالى ذكره: قالت المرأة صاحبة سبإ: رب إني ظلمت نفسي في عبادتي الشمس, وسجودي لما دونك (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ ) تقول: وانقدت مع سليمان مذعنة لله بالتوحيد, مفردة له بالألوهة والربوبية دون كل من سواه.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في: (حَسِبَتْهُ لُجَّةً ) قال: (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ ) فَعرفت أنها قد غلبت (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ).