الآية 36 من سورة ق
قال تعالى: (وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّن قَرۡنٍ هُمۡ أَشَدُّ مِنۡهُم بَطۡشٗا فَنَقَّبُواْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ هَلۡ مِن مَّحِيصٍ) [ق - الآية 36]
تفسير جلالين
«وكم أهلكنا قبلهم من قرن» أي أهلكنا قبل كفار قريش قرونا كثيرة من الكفار «هم أشد منهم بطشا» قوة «فنقبوا» فتشوا «في البلاد هل من محيص» لهم أو لغيرهم من الموت فلم يجدوا.
تفسير السعدي
يقول تعالى -مخوفًا للمشركين المكذبين للرسول:- وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ أي: أمما كثيرة هم أشد من هؤلاء بطشًا أي: قوة وآثارًا في الأرض.
ولهذا قال: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ أي: بنوا الحصون المنيعة والمنازل الرفيعة، وغرسوا الأشجار، وأجروا الأنهار، وزرعوا، وعمروا، ودمروا، فلما كذبوا رسل الله، وجحدوا آيات الله، أخذهم الله بالعقاب الأليم، والعذاب الشديد، ف هَلْ مِنْ مَحِيصٍ أي: لا مفر لهم من عذاب الله، حين نزل بهم، ولا منقذ، فلم تغن عنهم قوتهم، ولا أموالهم، ولا أولادهم.
تفسير بن كثير
يقول تعالى : وكم أهلكنا قبل هؤلاء المنكرين : ( من قرن هم أشد منهم بطشا ) أي : كانوا أكثر منهم وأشد قوة ، وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها ; ولهذا قال هاهنا : ( فنقبوا في البلاد ) قال ابن عباس : أثروا فيها.
وقال مجاهد : ( فنقبوا في البلاد ) : ضربوا في الأرض.
وقال قتادة : فساروا في البلاد ، أي ساروا فيها يبتغون الأرزاق والمتاجر والمكاسب أكثر مما طفتم أنتم فيها ويقال لمن طوف في البلاد : نقب فيها.
قال امرؤ القيس :لقد نقبت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإيابوقوله : ( هل من محيص ) أي : هل من مفر كان لهم من قضاء الله وقدره ؟ وهل نفعهم ما جمعوه ورد عنهم عذاب الله إذ جاءهم لما كذبوا الرسل ؟ فأنتم أيضا لا مفر لكم ولا محيد ولا مناص ولا محيص.
تفسير الوسيط للطنطاوي
وكَمْ في قوله- تعالى-: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ.
خبرية بمعنى كثير، وهي منصوبة بما بعدها، والقرن يطلق على جماعة من الناس تعيش في زمن واحد، ومقداره مائة سنة- على الراجح-.
وقوله: مِنْ قَرْنٍ تمييز لكم، وجملة هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً صفة، والبطش:السطوة والأخذ بشدة.
أى: واعلم- أيها الرسول الكريم- أننا أهلكنا كثيرا من القرون الماضية التي كذبت رسلها، كقوم نوح وعاد وثمود، وقد كانوا أشد من قومك قوة وأكثر جمعا، ومادام الأمر كما ذكرنا لك، فلا تحزن ولا تبتئس لما يصيبك من الكافرين المعاصرين لك، فنحن في قدرتنا أن ندمرهم تدميرا.
والضمير في قوله- تعالى-: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ يعود إلى أهل تلك القرون المهلكة الماضية.
والتنقيب: السير في الأرض، والطواف فيها.
والبحث بين أرجائها، يقال: نقب فلان في الأرض، إذا ذهب فيها وأصل النّقب: الخرق والدخول في الشيء، ومنه قولهم:نقب فلان الجدار، إذا أحدث فيه خرقا.
والمراد به هنا: السير في الأرض، والتفتيش فيها.
قال الآلوسى: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ أى: ساروا في الأرض وطوفوا فيها حذر الموت.
قال الشاعر:نقبوا في البلاد حذر الموت.
وجالوا في الأرض كل مجالوشاع التنقيب في العرف بمعنى التنقير عن الشيء والبحث عن أحواله.
والفاء على تفسير التنقيب بالسير ونحوه، لمجرد التعقيب، وعلى تفسيره بالتصرف للسببية، لأن تصرفهم في البلاد مسبب عن اشتداد بطشهم، وهي على الوجهين عاطفة على معنى ما قبلها، كأنه قيل: اشتد بطشهم فنقبوا في البلاد.
والاستفهام في قوله- سبحانه-: هَلْ مِنْ مَحِيصٍ للإنكار والنفي، والمحيص:المعدل والمهرب، يقال: حاص فلان عن الشيء يحيص حيصا، ومحيصا، إذا عدل وحاد عنه، وحاول الهروب منه.
أى: أن هؤلاء المكذبين السابقين، كانوا أشد من مشركي قريش قوة وأكثر جميعا، وكانوا أكثر ضربا في الأرض وسيرا فيها فلما نزل بهم بأسنا حاولوا الهرب والفرار، فلم يجدوا مكانا يهربون فيه، بل نزل بهم عذابنا فدمرناهم تدميرا.
فعليكم- أيها المشركون- أن تعتبروا بهم، حتى لا يصيبكم ما أصابهم.
فالمقصود بالآية الكريمة، تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلّم وتحذير أعدائه من سوء عاقبة الكفر والعناد.
تفسير البغوي
قوله - عز وجل - : ( وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد ) ضربوا وساروا وتقلبوا وطافوا ، وأصله من النقب ، وهو الطريق كأنهم سلكوا كل طريق ( هل من محيص ) فلم يجدوا محيصا من أمر الله.
وقيل : " هل من محيص " مفر من الموت ؟ فلم يجدوا [ منه مفرا ، وهذا إنذار ] لأهل مكة وأنهم على مثل سبيلهم لا يجدون مفرا عن الموت يموتون ، فيصيرون إلى عذاب الله.
تفسير القرطبي
قوله تعالى : وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا أي كم أهلكنا يا محمد قبل قومك من أمة هم أشد منهم بطشا وقوة.
فنقبوا في البلاد هل من محيص أي ساروا فيها طلبا للمهرب.
وقيل : أثروا في البلاد ; قاله ابن عباس.
وقال مجاهد : ضربوا وطافوا.
وقال النضر بن شميل : دوروا.
وقال قتادة : طوفوا.
وقال المؤرج : تباعدوا ; ومنه قول امرئ القيس : وقد نقبت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب ثم قيل : طافوا في أقاصي البلاد طلبا للتجارات ، وهل وجدوا من الموت محيصا ؟.
وقيل : طوفوا في البلاد يلتمسون محيصا من الموت.
قال الحارث بن حلزة : نقبوا في البلاد من حذر المو ت وجالوا في الأرض كل مجال وقرأ الحسن وأبو العالية : " فنقبوا " بفتح القاف وتخفيفها.
والنقب هو الخرق والدخول في الشيء.
وقيل : النقب الطريق في الجبل ، وكذلك المنقب والمنقبة ; عن ابن السكيت.
ونقب الجدار نقبا ، واسم تلك النقبة نقب أيضا ، وجمع النقب النقوب ; أي خرقوا البلاد وساروا في نقوبها.
وقيل : أثروا فيها كتأثير الحديد فيما ينقب.
وقرأ السلمي يحيى بن يعمر " فنقبوا " بكسر القاف والتشديد على الأمر بالتهديد والوعيد ; أي طوفوا البلاد وسيروا فيها فانظروا هل من الموت محيص ومهرب ; ذكره الثعلبي.
وحكى القشيري " فنقبوا " بكسر القاف مع التخفيف ; أي أكثروا السير فيها حتى نقبت دوابهم.
الجوهري : ونقب البعير بالكسر إذا رقت أخفافه ، وأنقب الرجل ، إذا نقب بعيره ، ونقب الخف الملبوس أي تخرق.
والمحيص مصدر حاص عنه يحيص حيصا وحيوصا ومحيصا ومحاصا وحيصانا ; أي عدل وحاد.
يقال : ما عنه محيص أي محيد ومهرب.
والانحياص مثله ; يقال للأولياء : حاصوا عن العدو وللأعداء انهزموا.
تفسير الطبري
القول في تأويل قوله تعالى : وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)وقوله ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ ) يقول تعالى ذكره: وكثيرا أهلكنا قبل هؤلاء المشركين من قريش من القرون,( هُمْ أَشَدَّ ) من قريش الذين كذّبوا محمدا( بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ ) يقول: فَخَرَّقُوا (1) البلادَ فساروا فيها, فطافوا وتوغَّلوا إلى الأقاصي منها; قال امرؤ القَيس:لقَدْ نَقَّبْتُ فِي الآفاقِ حتَّىرَضِيتُ مِنَ الغَنِيمَةِ بالإياب (2)وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس ( فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ ) قال: أثَّروا.
حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله ( فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ ) قال: يقول: عملوا في البلاد ذاك النقْب.
* ذكر من قال ذلك:وقوله ( هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ) يقول جلّ ثناؤه: فهل كان لهم بتنقبهم في البلاد من معدل عن الموت; ومَنْجي من الهلاك إذ جاءهم أمرنا.
وأضمرت كان في هذا الموضع, كما أضمرت في قوله وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ بمعنى: فلم يكن لهم ناصر عند إهلاكهم.
وقرأت القرّاء قوله ( فَنَقَّبُوا ) بالتشديد وفتح القاف على وجه الخبر عنهم.
وذُكر عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ ذلك ( فَنَقِبُوا ) بكسر القاف على وجه التهديد والوعيد: أي طوّفوا في البلاد, وتردّدوا فيها, فإنكم لن تفوتونا بأنفسكم.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله ( مِنْ مَحِيصٍ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ ).
حتى بلغ ( هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ) قد حاص الفَجرة فوجدوا أمر الله مُتَّبِعا.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, قوله ( فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ) قال: حاص أعداء الله, فوجدوا أمر الله لهم مُدْرِكا.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ) قال: هل من منجي.