الآية 1 من سورة الحجرات
قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ) [الحجرات - الآية 1]
تفسير جلالين
«يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا» من قدم بمعنى تقدم، أي لا تَقَدَّمُوا بقول ولا فعل «بين يدي الله ورسوله» المبلغ عنه، أي بغير إذنهما «واتقوا الله إن الله سميع» لقولكم «عليم» بفعلكم، نزلت في مجادلة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما عند النبي صلى الله عليه وسلم في تأمير الأقرع بن حابس أو القعقاع بن معبد ونزل فيمن رفع صوته عند النبي صلى الله عليه وسلم.
تفسير السعدي
هذا متضمن للأدب، مع الله تعالى، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتعظيم له ، واحترامه، وإكرامه، فأمر [الله] عباده المؤمنين، بما يقتضيه الإيمان، بالله وبرسوله، من امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، وأن يكونوا ماشين، خلف أوامر الله، متبعين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في جميع أمورهم، و [أن] لا يتقدموا بين يدي الله ورسوله، ولا يقولوا، حتى يقول، ولا يأمروا، حتى يأمر، فإن هذا، حقيقة الأدب الواجب، مع الله ورسوله، وهو عنوان سعادة العبد وفلاحه، وبفواته، تفوته السعادة الأبدية، والنعيم السرمدي، وفي هذا، النهي [الشديد] عن تقديم قول غير الرسول صلى الله عليه وسلم، على قوله، فإنه متى استبانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجب اتباعها، وتقديمها على غيرها، كائنا ما كانثم أمر الله بتقواه عمومًا، وهي كما قال طلق بن حبيب: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخشى عقاب الله.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ أي: لجميع الأصوات في جميع الأوقات، في خفي المواضع والجهات، عَلِيمٌ بالظواهر والبواطن، والسوابق واللواحق، والواجبات والمستحيلات والممكناتوفي ذكر الاسمين الكريمين -بعد النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله، والأمر بتقواه- حث على امتثال تلك الأوامر الحسنة، والآداب المستحسنة، وترهيب عن عدم الامتثال.
تفسير بن كثير
تفسير سورة الحجرات وهي مدنية.
هذه آداب أدب الله بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام ، فقال : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله [ واتقوا الله ] ) ، أي : لا تسرعوا في الأشياء بين يديه ، أي : قبله ، بل كونوا تبعا له في جميع الأمور ، حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ ، [ إذ ] قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - حين بعثه إلى اليمن : " بم تحكم ؟ " قال : بكتاب الله.
قال : " فإن لم تجد ؟ " قال : بسنة رسول الله.
قال : " فإن لم تجد ؟ " قال : أجتهد رأيي ، فضرب في صدره وقال : " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله ، لما يرضي رسول الله ".
وقد رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه.
فالغرض منه أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة ، ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة.
وقال العوفي عنه : نهى أن يتكلموا بين يدي كلامه.
وقال مجاهد : لا تفتاتوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء ، حتى يقضي الله على لسانه.
وقال الضحاك : لا تقضوا أمرا دون الله ورسوله من شرائع دينكم.
وقال سفيان الثوري : ( لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) بقول ولا فعل.
وقال الحسن البصري : ( لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) قال : لا تدعوا قبل الإمام.
وقال قتادة : ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون : لو أنزل في كذا كذا ، وكذا لو صنع كذا ، فكره الله ذلك ، وتقدم فيه.
( واتقوا الله ) أي : فيما أمركم به ، ( إن الله سميع ) أي : لأقوالكم ) عليم ) بنياتكم.
تفسير الوسيط للطنطاوي
بسم الله الرّحمن الرّحيممقدمة وتمهيد1- سورة «الحجرات» من السور المدنية الخالصة، وعدد آياتها ثماني عشرة آية، وكان نزولها بعد سورة «المجادلة».
2- والذي يتدبر هذه السورة الكريمة، يراها قد اشتملت على أسمى الآداب، وأبلغ العظات، وأحكم الهدايات، فهي تبدأ بنداء للمؤمنين، تعلمهم فيه ما يجب عليهم نحو خالقهم- سبحانه-، ونحو نبيهم صلّى الله عليه وسلّم من أدب.
قال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ.
3- ثم وجهت إليهم نداء ثالثا أمرتهم من خلاله بالتثبت من صحة الأخبار التي تصل إلى مسامعهم، وبينت لهم جانبا من مظاهر فضل الله عليهم.
قال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ.
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ، وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ، أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ.
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
4- ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عما يجب على المؤمنين نحو إخوانهم في العقيدة، إذا ما دب بينهم نزاع أو قتال، فأمرت بالإصلاح بينهم، وبمقاتلة الفئة الباغية إذا ما أبت الصلح، وأصرت على بغيها.
قال- سبحانه-: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما، فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ، فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ، وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
5- ثم وجهت بعد ذلك إلى المؤمنين نداء رابعا نهتهم فيه عن أن يسخر بعضهم من بعض،أو أن يلمز بعضهم بعضا.
ونداء خامسا أمرتهم فيه باجتناب الظن السيئ بالغير، دون أن يكون هناك مبرر لذلك، ونهتهم عن التجسس وعن الغيبة.
قال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ، وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ، وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ، وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ، وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا، وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ.
6- وبعد هذه النداءات المتكررة للمؤمنين، وجهت نداء إلى الناس جميعا، بينت لهم فيه أنهم جميعا قد خلقوا من ذكر وأنثى، وأن أكرمهم عند الله هو أتقاهم وأخشاهم لله- تعالى-.
ثم ردت على الأعراب الذين قالوا آمنا دون أن يستقر الإيمان في قلوبهم ووضحت صفات المؤمنين الصادقين، وأمرت كل مؤمن أن يشكر الله- تعالى- على نعمة الإيمان.
قال- سبحانه-: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا، قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ، بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ.
7- وهكذا نجد السورة الكريمة قد رسمت للمؤمنين طريق الحياة السعيدة، حيث عرفتهم بما يجب عليهم نحو خالقهم- سبحانه- وبما يجب عليهم نحو نبيهم صلّى الله عليه وسلّم وبما يجب عليهم نحو أنفسهم، وربما يجب عليهم نحو إخوانهم في العقيدة، وبما يجب عليهم نحو أفراد المجتمع الإسلامى بصفة عامة.
وقد وضحت لهم كل ذلك بأسلوب بليغ مؤثر، من شأنه أن يغرس في النفوس الخشوع والطاعة لله رب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
افتتحت سورة «الحجرات» بهذا النداء المحبب إلى القلوب، ألا وهو الوصف بالإيمان، الذي من شأن المتصفين به، أن يمتثلوا لما يأمرهم الله- تعالى- به، ويجتنبوا ما ينهاهم عنه.
افتتحت بقوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وقوله تُقَدِّمُوا مضارع قدم اللازم بمعنى تقدم، ومنه مقدمة الجيش ومقدمة الكتاب- بكسر الدال فيهما- وهو اسم فاعل فيهما بمعنى تقدم.
ويصح أن يكون مضارع قدّم المتعدى، تقول: قدمت فلانا على فلان، إذا جعلته متقدما عليه، وحذف المفعول لقصد التعميم.
وقوله: بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ تشبيه لمن يتعجل في إصدار حكم من أحكام الدين بغير استناد إلى حكم الله ورسوله، بحالة من يتقدم بين يدي سيده أو رئيسه، بأن يسير أمامه في الطريق، أو على يمينه أو شماله.
وحقيقة الجلوس بين يدي الشخص: أن يجلس بين الجهتين المقابلتين ليمينه أو شماله قريبا منه أو أمامه.
قال الجمل قوله: بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ جرت هذه العبارة هنا على سنن من المجاز، وهو الذي يسميه أهل البيان تمثيلا، أى: استعارة تمثيلية، شبّه تعجل الصحابة في إقدامهم على قطع الحكم في أمر من أمور الدين، بغير إذن الله ورسوله، بحالة من تقدم بين يدي متبوعه إذا سار في طريق، فإنه في العادة مستهجن.
والغرض تصوير كمال الهجنة، وتقبيح قطع الحكم بغير إذن الله ورسوله.
أو المراد: بين يدي رسول الله، وذكر لفظ الجلالة على سبيل التعظيم للرسول صلّى الله عليه وسلّم وإشعار بأنه من الله بمكان يوجب إجلاله.
والمعنى: يا من آمنتم بالله- تعالى- حق الإيمان: احذروا أن تتسرعوا في الأحكام، فتقولوا قولا، أو تفعلوا فعلا يتعلق بأمر ديني، دون أن تستندوا في ذلك إلى الله- تعالى- وحكم رسوله صلّى الله عليه وسلّم وَاتَّقُوا اللَّهَ- تعالى- في كل ما تأتون وتذرون، إن الله سميع لأقوالكم، عليم بجميع أحوالكم.
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: هذه آداب أدب الله- تعالى- بها عباده المؤمنين، فيما يعاملون به الرسول صلّى الله عليه وسلّم من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام.
فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
أى: لا تسرعوا في الأشياء بين يديه.
أى: قبله، بل كونوا تبعا له في جميع الأمور، حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي، حديث معاذ، إذ قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم حين بعثه إلى اليمن: «بم تحكم؟ قال بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيى».
فالغرض منه أنه أخّر رأيه ونظره واجتهاده، إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله.
وقال الإمام القرطبي ما ملخصه: قوله: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أى:لا تقدموا قولا ولا فعلا بين يدي الله، وقول رسوله وفعله، فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر الدين والدنيا.
واختلف في سبب نزول هذه الآية على ستة أقوال منها:ما ذكره الواحدي من حديث ابن جريج قال: حدثني ابن أبى مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبره أنه قدم ركب من بنى تميم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال أبو بكر: يا رسول الله، أمّر عليهم القعقاع بن معبد.
وقال عمر: يا رسول الله، أمّر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي.
وقال عمر ما أردت خلافك، فتماديا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزلت هذه الآية.
وقال قتادة: إن ناسا كانوا يقولون: لو أنزل فيّ كذا، فنزلت هذه الآية.
وقال الحسن: نزلت في قوم ذبحوا أضحيتهم قبل أن يصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأمرهم أن يعيدوا الذبح.
وعلى أية حال فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والمقصود من الآية الكريمة نهى المؤمنين في كل زمان ومكان عن أن يقولوا قولا أو يفعلوا فعلا يتعلق بأمر شرعي، دون أن يعودوا فيه إلى حكم الله ورسوله.
تفسير البغوي
مدنية( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) قرأ يعقوب : " لا تقدموا " بفتح التاء والدال ، من التقدم أي لا تتقدموا ، وقرأ الآخرون بضم التاء وكسر الدال ، من التقديم ، وهو لازم بمعنى التقدم ، [ قال أبو عبيدة ] : تقول العرب : لا تقدم بين يدي الإمام وبين يدي الأب ، أي لا تعجل بالأمر والنهي دونه ، والمعنى : بين اليدين الأمام.
والقدام : أي لا تقدموا بين يدي أمرهما ونهيهما.
واختلفوا في معناه : روى الشعبي عن جابر أنه في الذبح يوم الأضحى ، وهو قول الحسن ، أي لا تذبحوا قبل أن يذبح النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك أن ناسا ذبحوا قبل صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأمرهم أن يعيدوا الذبح.
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا محمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا شعبة ، عن يزيد ، عن الشعبي ، عن البراء قال : خطبنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر ، قال : " إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ، ثم نرجع فننحر ، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ، ومن ذبح قبل أن نصلي فإنما هو لحم عجله لأهله ليس من النسك في شيء ".
وروى مسروق عن عائشة أنه في النهي عن صوم يوم الشك ، أي : لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم.
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم عن ابن أبي مليكة ، أن عبد الله بن الزبير أخبرهم ، أنه قدم ركب من بني تميم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال أبو بكر : أمر القعقاع معبد بن زرارة ، قال عمر : بل أمر الأقرع بن حابس ، قال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي ، قال عمر : ما أردت خلافك ، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما ، فنزلت في ذلك : " يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " حتى انقضت.
ورواه نافع عن ابن أبي مليكة ، قال فنزلت : " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " إلى قوله : " أجر عظيم " ، وزاد : قال ابن الزبير : فما كان عمر يسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذه الآية حتى يستفهمه ، ولم يذكر عن أبيه ، يعني أبا بكر.
وقال قتادة : نزلت الآية في ناس كانوا يقولون : لو أنزل في كذا ، أو صنع في كذا وكذا ، فكره الله ذلك.
وقال مجاهد : لا تفتاتوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء حتى يقضيه الله على لسانه.
وقال الضحاك : يعني في القتال وشرائع الدين لا تقضوا أمرا دون الله ورسوله.
( واتقوا الله ) في تضييع حقه ومخالفة أمره ( إن الله سميع ) لأقوالكم ( عليم ) بأفعالكم.
تفسير القرطبي
تفسير سورة الحجرات.
مدنية بإجماع.
وهي ثماني عشرة آية.
بسم الله الرحمن الرحيم.
يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم.
فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله قال العلماء : كان في العربي جفاء وسوء أدب في خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتلقيب الناس.
فالسورة في الأمر بمكارم الأخلاق ورعاية الآداب.
وقرأ الضحاك ويعقوب الحضرمي : ( لا تقدموا ) بفتح التاء والدال من التقدم.
الباقون تقدموا بضم التاء وكسر الدال من التقديم.
ومعناهما ظاهر ، أي : لا تقدموا قولا ولا فعلا بين يدي الله وقول رسوله وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر الدين والدنيا.
ومن قدم قوله أو فعله على الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد قدمه على الله تعالى لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما يأمر عن أمر الله عز وجل.
الثانية : واختلف في سبب نزولها على أقوال ستة :الأول : ما ذكره الواحدي من حديث ابن جريج قال : حدثني ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال أبو بكر : أمر القعقاع بن معبد.
وقال عمر : أمر الأقرع بن حابس.
فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي.
وقال عمر : ما أردت خلافك.
فتماديا حتى ارتفعت أصواتهما ، فنزل في ذلك : يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله - إلى قوله - ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم رواه البخاري عن الحسن بن محمد بن الصباح ، ذكره المهدوي أيضا.
الثاني : ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يستخلف على المدينة رجلا إذا مضى إلى خيبر ، فأشار عليه عمر برجل آخر ، فنزل : يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ذكره المهدوي أيضا.
الثالث : ما ذكره الماوردي عن الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنفذ أربعة وعشرين رجلا من أصحابه إلى بني عامر فقتلوهم ، إلا ثلاثة تأخروا عنهم فسلموا وانكفئوا إلى المدينة ، فلقوا رجلين من بني سليم فسألوهما عن نسبهما فقالا : من بني عامر لأنهم أعز من بني سليم فقتلوهما ، فجاء نفر من بني سليم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : إن بيننا وبينك عهدا ، وقد قتل منا رجلان ، فوداهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بمائة بعير ، ونزلت عليه هذه الآية في قتلهم الرجلين.
الرابع : وقال قتادة : إن ناسا كانوا يقولون لو أنزل في كذا ، لو أنزل في كذا ؟ فنزلت هذه الآية.
ابن عباس : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه.
مجاهد : لا تفتاتوا على الله ورسوله حتى يقضي الله على لسان رسوله ، ذكره البخاري أيضا.
[ الخامس ] : [ وقال ] الحسن : نزلت في قوم ذبحوا قبل أن يصلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأمرهم أن يعيدوا الذبح.
ابن جريج : لا تقدموا أعمال الطاعات قبل وقتها الذي أمر الله تعالى به ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
قلت : هذه الأقوال الخمسة المتأخرة ذكرها القاضي أبو بكر بن العربي ، وسردها قبله الماوردي.
قال القاضي : وهي كلها صحيحة تدخل تحت العموم ، فالله أعلم ما كان السبب المثير للآية منها ، ولعلها نزلت دون سبب ، والله أعلم.
قال القاضي : إذا قلنا إنها نزلت في تقديم الطاعات على أوقاتها فهو صحيح ; لأن كل عبادة مؤقتة بميقات لا يجوز تقديمها عليه كالصلاة والصوم والحج ، وذلك بين.
إلا أن العلماء اختلفوا في الزكاة ، لما كانت عبادة مالية وكانت مطلوبة لمعنى مفهوم ، وهو سد خلة الفقير ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعجل من العباس صدقة عامين ، ولما جاء من جمع صدقة الفطر قبل يوم الفطر حتى تعطى لمستحقيها يوم الوجوب وهو يوم الفطر ، فاقتضى ذلك كله جواز تقديمها العام والاثنين.
فإن جاء رأس العام والنصاب بحاله وقعت موقعها.
وإن جاء رأس العام وقد تغير النصاب تبين أنها صدقة تطوع.
وقال أشهب : لا يجوز تقديمها على الحول لحظة كالصلاة ، وكأنه طرد الأصل في العبادات فرأى أنها إحدى دعائم الإسلام فوفاها حقها في النظام وحسن الترتيب.
ورأى سائر علمائنا أن التقديم اليسير فيها جائز ; لأنه معفو عنه في الشرع بخلاف الكثير.
وما قاله أشهب أصح ، فإن مفارقة اليسير الكثير في أصول الشريعة صحيح ولكنه لمعان تختص باليسير دون الكثير.
فأما في مسألتنا فاليوم فيه كالشهر ، والشهر كالسنة.
فإما تقديم كلي كما قاله أبو حنيفة والشافعي ، وإما حفظ العبادة على ميقاتها كما قال أشهب.
الثالثة : قوله تعالى : لا تقدموا بين يدي الله أصل في ترك التعرض لأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإيجاب اتباعه والاقتداء به ، وكذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه : مروا أبا بكر فليصل بالناس.
فقالت عائشة لحفصة - رضي الله عنهما : قولي له إن أبا بكر رجل أسيف ، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس من البكاء ، فمر عمر فليصل بالناس.
فقال - صلى الله عليه وسلم - : إنكن لأنتن صواحب يوسف.
مروا أبا بكر فليصل بالناس.
فمعنى قوله ( صواحب يوسف ) الفتنة بالرد عن الجائز إلى غير الجائز.
وربما احتج بغاة القياس بهذه الآية.
وهو باطل منهم ، فإن ما قامت دلالته فليس في فعله تقديم بين يديه.
وقد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع ، فليس إذا تقدم بين يديه.
واتقوا الله يعني في التقدم المنهي عنه.
إن الله سميع لقولكم عليم بفعلكم.
تفسير الطبري
القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)يعني تعالى ذكره بقوله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) : يا أيها الذين أقرّوا بوحدانية الله, وبنبوّة نبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) يقول: لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم, قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله, فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله, محكيّ عن العرب فلان يقدّم بين يدي إمامه, بمعنى يعجل بالأمر والنهي دونه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن اختلفت ألفاظهم بالبيان عن معناه.
* ذكر من قال ذلك:حدثنا عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, في قوله ( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) يقول: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, في قوله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ).
الآية قال: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه.
حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) قال: لا تفتاتوا على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بشيء حتى يقضيه الله على لسانه.
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) ذُكر لنا أن ناسا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا لوضع كذا وكذا, قال: فكره الله عزّ وجلّ ذلك, وقدم فيه.
وقال الحسن: أناس من المسلمين ذبحوا قبل صلاة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يوم النحر, فأمرهم نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يعيدوا ذبحا آخر.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) قال: إن أُناسا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا, لو أنزل في كذا, وقال الحسن: هم قوم نحروا قبل أن يصلي النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم, فأمرهم النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يعيدوا الذبح.
حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) يعني بذلك في القتال, وكان (1) من أمورهم لا يصلح أن يقضى إلا بأمره ما كان من شرائع دينهم.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله جلّ ثناؤه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) قال: لا تقطعوا الأمر دون الله ورسوله.
وحدثنا ابن حُمَيد, قال: ثنا مهران, عن سفيان ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) قال: لا تقضوا أمرا دون رسول الله, وبضم التاء من قوله ( لا تُقَدِّمُوا ) قرأ قرّاء الأمصار, وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها, لإجماع الحجة من القرّاء عليها, وقد حكي عن العرب قدّمت في كذا, وتقدّمت في كذا, فعلى هذه اللغة لو كان قيل: ( لا تَقَدَّمُوا ) بفتح التاء (2) كان جائزا.
وقوله ( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) يقول: وخافوا الله أيها الذين آمنوا في قولكم, أن تقولوا ما لم يأذن لكم به الله ولا رسوله, وفي غير ذلك من أموركم, وراقبوه, إن الله سميع لما تقولون, عليم بما تريدون بقولكم إذا قلتم, لا يخفى عليه شيء من ضمائر صدوركم, وغير ذلك من أموركم وأمور غيركم.
------------------------الهوامش:(1) كذا في الأصل ، ولعل الصواب : وكل ما كان.
الخ.
(2) والدال مشددة وهي قراءة مشهورة ليعقوب الحضرمي.