تفسير: بل ادارك علمهم في…، الآية 66 من سورة النمل

الآية 66 من سورة النمل

قال تعالى: (بَلِ ٱدَّٰرَكَ عِلۡمُهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ بَلۡ هُمۡ فِي شَكّٖ مِّنۡهَاۖ بَلۡ هُم مِّنۡهَا عَمُونَ) [النمل - الآية 66]

تفسير جلالين

«بل» بمعنى هل «أدرك» وزن أكرم، وفي قراءة أخرى ادّارَكَ بتشديد الدال وأصله تدارك أبدلت التاء دالاً وأدغمت في الدال واجتلبت همزة الوصل أي بلغ ولحق أو تتابع وتلاحق «علمهم في الآخرة» أي بها حتى سألوا عن وقت مجيئها ليس الأمر كذلك «بل هم في شك منها بل هم منها عمون» من عمى القلب وهو أبلغ مما قبله والأصل عميون استثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى الميم بعد حذف كسرتها.

تفسير السعدي

بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ أي: بل ضعف، وقل ولم يكن يقينا، ولا علما واصلا إلى القلب وهذا أقل وأدنى درجة للعلم ضعفه ووهاؤه، بل ليس عندهم علم قوي ولا ضعيف وإنما هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا أي: من الآخرة، والشك زال به العلم لأن العلم بجميع مراتبه لا يجامع الشك، بَلْ هُمْ مِنْهَا أي: من الآخرة عَمُونَ قد عميت عنها بصائرهم، ولم يكن في قلوبهم من وقوعها ولا احتمال بل أنكروها واستبعدوها.

تفسير بن كثير

وقوله : ( بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها ) أي : انتهى علمهم وعجز عن معرفة وقتها.

وقرأ آخرون : " بل أدرك علمهم " ، أي : تساوى علمهم في ذلك ، كما في الصحيح لمسلم : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لجبريل - وقد سأله عن وقت الساعة - ما المسؤول عنها بأعلم من السائل أي : تساوى في العجز عن درك ذلك علم المسؤول والسائل.

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( بل ادارك علمهم في الآخرة ) أي : غاب.

وقال قتادة : ( بل ادارك علمهم في الآخرة ) يعني : يجهلهم ربهم ، يقول : لم ينفذ لهم إلى الآخرة علم ، هذا قول.

وقال ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : " بل أدرك علمهم في الآخرة " حين لم ينفع العلم ، وبه قال عطاء الخراساني ، والسدي : أن علمهم إنما يدرك ويكمل يوم القيامة حيث لا ينفعهم ذلك ، كما قال تعالى : ( أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين ) [ مريم : 38 ].

وقال سفيان ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن أنه كان يقرأ : " بل أدرك علمهم " قال : اضمحل علمهم في الدنيا ، حين عاينوا الآخرة.

وقوله : ( بل هم في شك منها ) عائد على الجنس ، والمراد الكافرون ، كما قال تعالى : ( وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ) [ الكهف : 48 ] أي : الكافرون منكم.

وهكذا قال هاهنا : ( بل هم في شك منها ) أي : شاكون في وجودها ووقوعها ، ( بل هم منها عمون ) أي : في عماية وجهل كبير في أمرها وشأنها.

تفسير الوسيط للطنطاوي

ثم بين- سبحانه- حقيقة أمرهم في الآخرة بصورة أكثر تفصيلا.

فقال: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ.

وقوله- تعالى-: بَلِ ادَّارَكَ.

قرأه الجمهور- بكسر اللام وتشديد الدال وبعدها ألف- وأصله تدارك، بزنة تفاعل.

وللعلماء في تفسير هذه الآية أقوال أشهرها: أن التدارك بمعنى الاضمحلال والفناء، وأصله التتابع والتلاحق.

يقال: تدارك بنو فلان، إذا تتابعوا في الهلاك، و «في» بمعنى الباء.

أى: بل تتابع علم هؤلاء المشركين بشئون البعث حتى اضمحل وفنى، ولم يبق لهم علم بشيء مما سيكون فيها قطعا مع توافر أسبابه ومباديه من الدلائل.

والمقصود: أن أسباب علمهم بأحوال الآخرة مع توافرها، قد تساقطت من اعتبارهم لكفرهم بها، فأجرى ذلك مجرى تتابعها في الانقطاع.

ومنهم من يرى أن التدارك هنا التكامل، فيكون المعنى: بل تكامل علمهم بشئون الآخرة، حين يعاينون ما أعد لهم فيها من عذاب، بعد أن كانوا ينكرون البعث والحساب في الدنيا.

قال الآلوسى ما ملخصه: قوله: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ إضراب عما تقدم على وجه يفيد تأكيده وتقريره.

والمعنى: بل تتابع علمهم في شأن الآخرة، التي ما ذكر من البعث حال من أحوالها، حتى انقطع وفنى، ولم يبق لهم علم بشيء مما سيكون فيها قطعا، مع توفر أسبابه، فهو ترق من وصفهم بجهل فاحش إلى وصفهم بجهل أفحش.

وجوز أن يكون «ادارك» بمعنى استحكم وتكامل.

ويبدو لنا أن الآية الكريمة تتسع للقولين، على معنى أن المشركين اضمحل علمهم بالآخرة لكفرهم بها في الدنيا، فإذا ما بعثوا يوم القيامة وشاهدوا العذاب، أيقنوا بحقيقتها، وتكامل علمهم واستحكم بأن ما كانوا ينكرونه في الدنيا.

قد صار حقيقة لا شك فيها، ولا مفر لهم من عذابها.

ومن الآيات التي توضح هذا المعنى قوله- تعالى-: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ أى: علمك بما كنت تنكره في الدنيا قد صار في نهاية القوة والوضوح.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: بل أدرك علمهم في الآخرة- بسكون اللام من بل.

وهمزة قطع مفتوحة مع سكون الدال في «أدرك» فهو بزنة أفعل.

أى: بل كمل علمهم في الآخرة، وذلك بعد أن شاهدوا أهوالها، ورأوها بأعينهم، وقد كانوا مكذبين بها في الدنيا.

وقوله- سبحانه-: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها.

بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ بيان لأحوالهم في الدنيا.

أى: أن هؤلاء المشركين كانوا في الدنيا يشكون في الآخرة، بل كانوا في عمى عنها، بحيث لا يفتحون بصائرهم أو أبصارهم، عما قال لهم الرسول صلّى الله عليه وسلم بشأنها.

فأنت ترى أن الآية الكريمة قد انتقلت في تصوير كفر هؤلاء المشركين بالآخرة، من حالة شنيعة إلى حالة أخرى أشد منها في الشناعة والجحود.

قال صاحب الكشاف: فإن قلت: هذه الإضرابات الثلاثة ما معناها؟ قلت: ما هي إلا تنزيل لأحوالهم وصفهم أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث، ثم لا يعلمون بأن القيامة كائنة، ثم إنهم يخبطون في شك ومرية، فلا يزيلونه مع أن الإزالة مستطاعة.

ثم بما هو أسوأ حالا وهو العمى، وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه وفرجه، لا يخطر بباله حق ولا باطل، ولا يفكر في عاقبة.

تفسير البغوي

( بل ادارك علمهم ) قرأ أبو جعفر ، وابن كثير ، وأبو عمرو : " أدرك " على وزن أفعل أي : بلغ ولحق ، كما يقال : أدركه علمي إذا لحقه وبلغه ، يريد : ما جهلوا في الدنيا وسقط علمه عنهم علموه في الآخرة.

قال مجاهد : يدرك علمهم ، ( في الآخرة ) ويعلمونها إذا عاينوها حين لا ينفعهم علمهم.

قال مقاتل : بل علموا في الآخرة حين عاينوها ما شكوا وعموا عنه في الدنيا وهو قوله : ( بل هم في شك منها ) يعني : هم اليوم في شك من الساعة ، وقرأ الآخرون : " بل ادارك " موصولا مشددا مع ألف بعد الدال المشددة ، أي : تدارك وتتابع علمهم في الآخرة وتلاحق.

وقيل : معناه اجتمع علمهم في الآخرة أنها كائنة ، وهم في شك في وقتهم ، فيكون بمعنى الأول.

وقيل : هو على طريق الاستفهام ، معناه : هل تدارك وتتابع علمهم بذلك في الآخرة ؟ أي : لم يتتابع وضل وغاب علمهم به فلم يبلغوه ولم يدركوه ، لأن في الاستفهام ضربا من الجحد يدل عليه.

قراءة ابن عباس " بلى " بإثبات الياء ، " أدارك " بفتح الألف على الاستفهام ، أي : لم يدرك ، وفي حرف أبي " أم تدارك علمهم " ، والعرب تضع " بل " موضع " أم " و " أم " موضع " بل " وجملة القول فيه : أن الله أخبر أنهم إذا بعثوا يوم القيامة يستوي علمهم في الآخرة وما وعدوا فيها من الثواب والعقاب ، وإن كانت علومهم مختلفة في الدنيا.

وذكر علي بن عيسى أن معنى " بل " هاهنا : " لو " ومعناه : لو أدركوا في الدنيا ما أدركوا في الآخرة لم يشكوا.

قوله - عز وجل - : ( بل هم في شك منها ) بل هم اليوم في الدنيا في شك من الساعة.

( بل هم منها عمون ) جمع عم ، وهو أعمى القلب.

قال الكلبي : يقول هم جهلة بها.

تفسير القرطبي

قوله تعالى : بل ادارك علمهم في الآخرة هذه قراءة أكثر الناس منهم عاصم وشيبة ونافع ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي.

وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وحميد : ( بل أدرك ) من الإدراك.

وقرأ عطاء بن يسار وأخوه سليمان بن يسار والأعمش : ( بل ادرك ) غير مهموز مشددا.

وقرأ ابن محيصن : ( بل أدارك ) على الاستفهام.

وقرأ ابن عباس : ( بلى ) بإثبات الياء ( أدارك ) بهمزة قطع والدال مشددة وألف بعدها ; قال النحاس : وإسناده إسناد صحيح ، هو من حديث شعبة يرفعه إلى ابن عباس.

وزعم هارون القارئ أن قراءة أبي ( بل تدارك علمهم ) وحكى الثعلبي أنها في حرف أبي ( أم تدارك ) والعرب تضع ( بل ) موضع ( أم ) و ( أم ) موضع ( بل ) إذا كان في أول الكلام استفهام ; كقول الشاعر :فوالله لا أدري أسلمي تقولت أم القول أم كل إلي حبيبأي : بل كل.

قال النحاس : القراءة الأولى والأخيرة معناهما واحد ، لأن أصل ( ادارك ) : تدارك ; أدغمت الدال في التاء وجيء بألف الوصل ; وفي معناه قولان :أحدهما : أن المعنى : بل تكامل علمهم في الآخرة ; لأنهم رأوا كل ما وعدوا به معاينة فتكامل علمهم به.

والقول الآخر : أن المعنى : بل تتابع علمهم اليوم في الآخرة ; فقالوا تكون وقالوا لا تكون.

القراءة الثانية فيها أيضا قولان :أحدهما : أن معناه كمل في الآخرة ; وهو مثل الأول ; قال مجاهد : معناه يدرك علمهم في الآخرة ويعلمونها إذا عاينوها حين لا ينفعهم علمهم ; لأنهم كانوا في الدنيا مكذبين.

والقول الآخر : أنه على معنى الإنكار ; وهو مذهب أبي إسحاق ; واستدل على صحة هذا القول بأن بعده بل هم منها عمون أي لم يدرك علمهم علم الآخرة.

وقيل : بل ضل وغاب علمهم في الآخرة فليس لهم فيها علم.

والقراءة الثالثة : ( بل ادرك ) فهي بمعنى : بل ادارك.

وقد يجيء ( افتعل وتفاعل ) بمعنى ; ولذلك صحح ( ازدوجوا ) حين كان بمعنى ( تزاوجوا ).

القراءة الرابعة ليس فيها إلا قول واحد يكون فيه معنى الإنكار ; كما تقول : أأنا قاتلتك ؟ ! فيكون المعنى لم يدرك ; وعليه ترجع قراءة ابن عباس ; قال ابن عباس : بل ادارك علمهم في الآخرة أي لم يدرك.

قال الفراء : وهو قول حسن كأنه وجهه إلى الاستهزاء بالمكذبين بالبعث ، كقولك لرجل تكذبه : بلى لعمري قد أدركت السلف فأنت تروي ما لا أروي.

وأنت تكذبه.

وقراءة سابعة : ( بل ادرك ) بفتح اللام ; عدل إلى الفتحة لخفتها.

وقد حكي نحو ذلك عن قطرب في ( قم الليل ) فإنه عدل إلى الفتح.

وكذلك و ( بع الثوب ) ونحوه.

وذكر الزمخشري في الكتاب : وقرئ ( بل أأدرك ) بهمزتين ( بل أدرك ) بألف بينهما ( بلى أأدرك ) ( أم تدارك ) ( أم أدرك ) فهذه ثنتا عشرة قراءة ، ثم أخذ يعلل وجوه القراءات وقال : فإن قلت فما وجه قراءة ( بل أدرك ) على الاستفهام ؟ قلت : هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم ، وكذلك من قرأ : ( أم أدرك ) و ( أم تدارك ) لأنها ( أم ) التي بمعنى ( بل والهمزة ) وأما من قرأ : ( بلى أأدرك ) على الاستفهام فمعناه : بلى يشعرون متى يبعثون ، ثم أنكر علمهم بكونها ، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور وقت كونها ; لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن.

في الآخرة في شأن الآخرة ومعناها.

بل هم في شك منها أي في الدنيا.

بل هم منها عمون أي بقلوبهم واحدهم عمو.

وقيل : عم ، وأصله عميون حذفت الياء لالتقاء الساكنين ولم يجز تحريكها لثقل الحركة فيها.

تفسير الطبري

وقوله: (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ ) اختلفت القراء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة سوى أبي جعفر وعامة قرّاء أهل الكوفة : (بَلِ ادَّارَكَ ) بكسر اللام من " بل " وتشديد الدال من " ادراك ", بمعنى: بل تدارك علمهم أي تتابع علمهم بالآخرة هل هي كائنة أم لا ثم أدغمت التاء في الدال كما قيل: اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ وقد بينا ذلك فيما مضى بما فيه الكفاية من إعادته.

وقرأته عامة قرّاء أهل مكة: " بَلْ أدْرَك عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ" بسكون الدال وفتح الألف, بمعنى هل أدرك علمهم علم الآخرة.

وكان أبو عمرو بن العلاء يُنكر فيما ذكر عنه قراءة من قرأ: " بَلْ أدْرَكَ" ويقول: إن " بل " إيجاب والاستفهام في هذا الموضع إنكار.

ومعنى الكلام: إذا قرئ كذلك " بَلْ أَدْرَكَ" لم يكن ذلك لم يدرك علمهم في الآخرة, وبالاستفهام قرأ ذلك ابن محيصن على الوجه الذي ذكرت أن أبا عمرو أنكره.

وبنحو الذي ذكرت عن المكيين أنهم قرءوه، ذُكر عن مجاهد أنه قرأه, غير أنه كان يقرأ في موضع بل: أم.

حدثنا ابن المثنى, قال: ثنا عبد الله بن موسى, قال: ثنا عثمان بن الأسود, عن مجاهد, أنه قرأ " أمْ أدْرَكَ عِلْمُهُمْ" وكان ابن عباس فيما ذُكر عنه يقرأ بإثبات ياء في بل, ثم يبتدئ " أدّراك " بفتح ألفها على وجه الاستفهام وتشديد الدال.

حدثنا حميد بن مسعدة, قال: ثنا بشر بن المفضل, قال: ثنا شعبة, عن أبي حمزة, عن ابن عباس في هذه الآية: " بَلى أدَّرَاكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ": أي لم يدرك.

حدثنا محمد بن المثنى, قال: ثنا محمد بن جعفر, قال: ثنا شعبة, عن أبي حمزة, قال: سمعت ابن عباس يقرأ " بَلى أدَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ" إنما هو استفهام أنه لم يدرك.

وكأن ابن عباس وجه ذلك إلى أن مخرجه مخرج الاستهزاء بالمكذّبين بالبعث.

والصواب من القراءات عندنا في ذلك، القراءتان اللتان ذكرت إحداهما عن قرأة أهل مكة والبصرة, وهي " بَلْ أَدْرَكَ عِلْمُهُمْ" بسكون لام بل، وفتح ألف أدرك، وتخفيف دالها, والأخرى منهما عن قرأة الكوفة, وهي (بَلِ ادَّارَكَ ) بكسر اللام وتشديد الدال من ادّارك؛ لأنهما القراءتان المعروفتان في قرّاء الأمصار, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب عندنا.

فأما القراءة التي ذُكرت عن ابن عباس, فإنها وإن كانت صحيحة المعنى والإعراب, فخلاف لما عليه مصاحف المسلمين, وذلك أن في بلى زيادة ياء في قراءاته ليست في المصاحف, وهي مع ذلك قراءة لا نعلمها قرأ بها أحد من قرّاء الأمصار.

وأما القراءة التي ذكرت عن ابن محيصن, فإن الذي قال فيها أبو عمرو قول صحيح؛ لأن العرب تحقق ببل ما بعدها لا تنفيه، والاستفهام في هذا الموضع إنكار لا إثبات, وذلك أن الله قد أخبر عن المشركين أنهم من الساعة في شكّ, فقال: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ).

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: معناه: بل أدرك علمهم في الآخرة فأيقنوها إذ عاينوها حين لم ينفعهم يقينهم بها, إذ كانوا بها في الدنيا مكذّبين.

*ذكر من قال ذلك:حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: قال عطاء الخراساني, عن ابن عباس: " بَلْ أدْرَكَ عِلْمُهُمْ" قال: بصرهم في الآخرة حين لم ينفعهم العلم والبصر.

وقال آخرون: بل معناه: بل غاب علمهم في الآخرة.

*ذكر من قال ذلك:حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: " بَلْ أدْرَكَ عِلْمُهُمْ في الآخرة " يقول: غاب علمهم.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: ( بَلْ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ في الآخِرَةِ ) قال: يقول: ضلّ علمهم في الآخرة فليس لهم فيها علم,(هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ).

وقال آخرون: معنى ذلك: لم يبلغ لهم فيها علم.

*ذكر من قال ذلك:حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد, قال: ثني أبي, عن جدي, قال: ثنا الحسين, عن قَتادة في قوله: (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ ) قال: كان يقرؤها: " بَلْ أدْرَكَ علْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ" قال: لم يبلغ لهم فيها علم, ولا يصل إليها منهم رغبة.

وقال آخرون: معنى ذلك: بل أدْرَكَ: أم أدرك.

*ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " بَلْ أدْرَكَ علْمُهُمْ" قال: أم أدرك.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عثمان, عن مجاهد: " بَلْ أدْرَكَ علْمُهُمْ" قال: أم أدرك علمهم، من أين يدرك علمهم؟حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين, قال: ثنا حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, بنحوه.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب على قراءة من قرأ " بَلْ أدْرَكَ" القول الذي ذكرناه عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس, وهو أن معناه: إذا قرئ كذلك (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) بل أدرك علمهم نفس وقت ذلك في الآخرة حين يبعثون, فلا ينفعهم علمهم به حينئذ, فأما في الدنيا فإنهم منها في شكّ, بل هم منها عمون.

وإنما قلت: هذا القول أولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، على القراءة التي ذُكِرَت؛ لأن ذلك أظهر معانيه.

وإذ كان ذلك معناه، كان في الكلام محذوف قد استغني بدلالة ما ظهر منه عنه، وذلك أن معنى الكلام: وما يشعرون أيان يُبْعثون, بل يشعرون ذلك في الآخرة, فالكلام إذا كان ذلك معناه, وما يشعرون أيان يبعثون, بل أدرك علمهم بذلك في الآخرة, بل هم في الدنيا في شك منها.

وأما على قراءة من قرأه (بَلِ ادَّارَكَ ) بكسر اللام وتشديد الدال, فالقول الذي ذكرنا عن مجاهد, وهو أن يكون معنى بل: أم, والعرب تضع أم موضع بل, وموضع بل: أم, إذا كان في أول الكلام استفهام كما قال الشاعر:فَوَاللهِ ما أَدْرِي أَسَلْمَى تَغَوَّلَتأمِ النَّوْمُ أَمْ كُلٌّ إليَّ حَبِيبُ (1)يعني بذلك بل كلّ إلي حبيب, فيكون تأويل الكلام: وما يشعرون أيان يبعثون, بل تدارك علمهم في الآخرة: يعني تتابع علمهم في الآخرة: أي بعلم الآخرة: أي لم يتتابع بذلك ولم يعلموه, بل غاب علمهم عنه, وضل فلم يبلغوه ولم يدركوه.

وقوله: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا ) يقول: بل هؤلاء المشركون الذين يسألونك عن الساعة في شك من قيامها، لا يوقنون بها ولا يصدّقون بأنهم مبعوثون من بعد الموت (بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ) يقول: بل هم من العلم بقيامها عمون.

------------------------الهوامش:(1) تغولت: تراءت لي في النوم في صور مختلفة.

والشاهد في البيت: أن "أم" الأولى متصلة، لأنها معادلة للهمزة، يقول: لا أدري أهو طيف سلمى عرض لي وتراءى، أم هو النوم يخلط على صور الأشياء، وهي أضغاث الأحلام.

وأما (أم) الثانية فإنها للإضراب: بمعنى (بل) يقول: بل كل ذلك حبيب إلى نفسي.

يريد ما يتراءى له من طيف الخيال.

وما يراه في النوم من الأحلام.

والبيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 236 من مصورة الجامعة).

وفي (اللسان: درك).

فأما من قرأ: "بل أدارك"، فإن الفراء قال: معناه لغة: تدارك، أي تتابع علمهم في الآخرة؛ يريد بعلم الآخرة: تكون أو لا تكون: ولذلك قال: (بل هم في شك منها بل هم منها عمون) قال: وهي في قراءة أبي: (أم تدارك)؛ والعرب تجعل (بل) مكان (أم)، و (أم) مكان (بل) إذا كان في أول الكلام استفهام، مثل قول الشاعر: "فوالله ما أدري.

" البيت.

معنى (أم): (بل).

وقال أبو معاذ النحوي: ومن قرأ: "بل أدرك"، ومن قرأ: "بل أدارك" فمعناهما واحد.

يقول: هم علماء في الآخرة، كقول الله تعالى: (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا) ونحو ذلك، قال السدي في تفسيره: اجتمع علمهم في الآخرة، ومعناها عنده: أي علموا في الآخرة أن الذي كانوا يوعدون به حق.

وقال الأزهري: والقول في تفسير أدرك وأدارك ومعنى الآية: ما قال السدي وذهب إليه أبو معاذ وأبو سعيد.

والذي قاله الفراء في معنى تدارك أي تتابع علمهم في الآخرة، أنها تكون أو لا تكون ليس بالبين، إنما المعنى: أنه تتابع علمهم في الآخرة، وتوطأ حين حقت القيامة، وخسروا، وبان لهم صدق ما وعدوا، حين لا ينفعهم ذلك العلم ا ه.